الظاهرة الحصادية: هل ستتكرر مجددًا؟

فلم يُبق مني الشوقُ غيرَ تفكري فلو شئتُ أن أبكي بكيتُ تفكرا
لم يكن رحيل الدكتور نجيب الحصادي هو رحيلُ واحدٍ، بل إنه بنيان قوم قد رحل. قامة فكرية سامقة تآلف فيه الفكر المتميز والخلق الرفيع، وتعانقت فيه الشهرة الواسعة والحضور الجذاب مع التواضع الجم، ولا يجمع بين هذه الصفات إلا النفوس الكبار.
إن نجيب الحصادي علامة متميزة في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، ونجم متألق في التاريخ الثقافي الليبي، بترجماته المتميزة ومؤلفاته العميقة، وصونه لعِرض العلم والثقافة من النخاسة والدنس، صاحب عقل نقدي موغل في المنطق والتفلسف.
درس على أساطين الفكر الفلسفي في كبرى الجامعات الأميركية، وحافظ على تدينه الفطري الأصيل.
زهد في رغد الحياة الأميركية وهو الأكاديمي المتميز الذي لا تتأخر أعرق الجامعات عن التعاقد معه، وآثر ضنك الحياة الليبية، وقدم إنجازا علميا متميزا في بيئة طاردة يصعب فيها العطاء العلمي النوعي المتواصل؛ فكان منجزه العلمي بين التأليف والترجمة في مواضيع دقيقة ومهمة.
عانى في بداية حياته الأكاديمية في بنغازي من شظف العيش ما عانى، وفي فترة من الفترات لم يكن يملك سيارة يذهب بها إلى الجامعة، فقبض على الجمر، ليحافظ على كرامة العلم وسمو الفكر، في الوقت الذي، ما زال ولا يزال، يتنعم ذو الوجهين، بائعا للكلام، ومروجا للأوهام، ومبررا للإجرام!
ترجع معرفتي بالدكتور نجيب الحصادي إلى بداية عقد التسعينيات في القرن الماضي، عندما كنت طالبا في كلية الآداب بجامعة بنغازي، ومهتما بالتاريخ والفلسفة، وعندي اهتمام خاص بالأجيال التي درست في الجامعة الليبية في العهد الملكي خاصة طلبة كلية الآداب، وهي الكلية المتميزة بأساتذتها وطلابها. كان سبب الاهتمام ينطلق من تساؤلات عن الموقف الوطني للطلبة الذين درسوا في الجامعة في عصرها الذهبي مما يحدث من جماعة سبتمبر.
كنت أخرج من المحاضرات إلى قسم الدوريات في المكتبة المركزية؛ لأتصفح مجلة الرسالة والثقافة، وغيرها من المجلات الرائدة، ثم أذهب إلى قسم ليبيا أبحث عن هويتنا المبعثرة وذاكرتنا المثقوبة؛ وتاريخنا المغيب؛ حيث بعض الكتب أو المجلات المتعلقة بالتاريخ الليبي التي أحيانا يُسمح بالاطلاع عليها وأحيانا بعد طلب وإلحاح، ومن ضمن المجلات كانت مجلة قورينا التي كانت تصدرها كلية الآداب، وبدأت أتصفح تلك المجلة التي كان يكتب فيها طلاب الكلية، ومن ضمن المقالات المنشورة وجدت بعض المقالات للمرحوم نجيب الحصادي، ووافق حينها أنه بدأ في نشر بعض الكتب، فذهبت إليه مباشرة واستأذنته في حضور محاضراته، وكان يُدرّس فلسفة العلوم والمنطق الرمزي فأذن لي بالحضور، فوجدت إنسانا خلوقا فاضلا، نجابته لا تخفى، رصين هادئ متزن، متمكن في علمه، مهموم بشيء ما، متبتل في محراب العلم، فما تجده إلا في محاضرة أو جالسا في مكتبه يتصفح كتابا، وعندما أذكر هذه الصفات خاصة في ذلك الزمن الذي كان فيه كثير من أساتذة الجامعة في حينها مشتتين بين الجامعات نتيجة لضيق الوضع المادي، فيسعون لتحسين أوضاعهم بإضافة محاضرات إضافية، فهم في حال سفر مستمر وربما كثير منهم أصبحت علاقته بالعلم ضعيفة أو تكاد لا توجد.
كان شعور بالحنين الظامئ يسكن جوانحي على ذلك الفردوس المسلوب، عندما كانت الجامعة في العهد الملكي عامرة بالحراك الفكري والعلمي وغنية بالقامات العلمية المتميزة، وأضرم هذا الحنين ما آلت إليه الجامعة من تصحر في عهد سبتمبر!
نحن الجيل الذي تفتحت مداركه في الأعوام العجاف، وهو عقد الثمانينيات والتسعينيات، وهي الفترة التي اشتدت فيها القبضة الأمنية، والمعاناة الاقتصادية، والتصحر الثقافي.
كان في حينها يُلح عليّ تساؤل ثقافي يتعلق بقسم الفلسفة في الجامعة الليبية، وقد تأسس في نفس الفترة الزمنية التي تأسس فيها قسم الفلسفة في جامعة الرباط، فكنت أتساءل: لماذا أنجبت المغرب الحبابي والجابري وطه عبد الرحمن، ولم ينجب قسم الفلسفة في الجامعة الليبية مثل هذه القامات؟ فما هي الأسباب؟ هذا السؤال ملك عليّ نفسي، وفجر فيها ينابيع البحث عن العلة والأسباب.
كانت الحياة الثقافية في بنغازي شبه متوقفة، إلا من بعض الجهود التي كانت تسعى لعودة الروح الثقافية للمدينة، كجهد الدكتورة المرحومة هنية الكاديكي في كلية الآداب، ومجهودات المرحوم الشاعر الأستاذ الوزير رجب الماجري والمرحوم إدريس المسماري خارج أسوار الجامعة. ولم يكن للدكتور نجيب الحصادي حضور في تلك الفترة، كان يعيش حياة العزلة، وربما لا يعرفه سوى طلابه وبعض زملاء الكلية أو الدراسة. وكان الأسلوب الذي يكتب به يميل إلى السجع وغرابة اللفظ، مع أن مواضيع المنطق وفلسفة العلم تتطلب أسلوبا مختلفا.
كان بعض الشباب المتدين عندما ينتقل من قراءة الكتب الدينية إلى الكتب الفكرية والفلسفية يلاحظ عليه بعض السيولة التي تحدث في خطابه وسلوكه، فيقل عنده الوازع الديني، ويضعف الالتزام السلوكي، وبدلا من أن ينضج فكريا يتلوث فطريا، وأحيانا يقلب ظهر المجن، وهي ظاهرة تستحق دراسة علمية تبحث في أصولها الاجتماعية والاقتصادية وأسبابها النفسية والثقافية… فهل المشكلة في الفلسفة والتزكية الفكرية؟ أم في هشاشة المتلقّي؟ وما بال الدكتور نجيب الحصادي الذي درس الفلسفة على يد كبارها ومن مصادرها الرئيسية، ظل تدينه راسخا، وشخصيته وازنة؟ ولم يتبدل خلقه الرفيع، سواء كان مغمورا، أو علما مشهورا. إن صياغة هذا المعدن النفيس ساهمت فيها عوامل عدة منها: بيئة زاهرة، وتنشئة صالحة.
كم من النفوس المغمورة تجدها تميل إلى السلوك المتدين والتواضع، وعندما يمسها طائف من المال أو الشهرة أو السلطة يخف وزنها وتسيل مواقفها، ويتلون منطقها وفق مقتضيات المصلحة الخاصة…. ولله في خلقه شؤون!
كانت أفئدة السلطة تهوي إلى الحصادي، ولم يسع إليها، بل كان يسمو بوقته أن يضيعه في شهوة السلطة وملذاتها؛ فالتهافت والتصايح على خسيس المغنم متروك لمن عندهم بسطة في الجيب وسعة في الوقت. كان رحمه الله يؤثر حياة العلم والتفرغ له. وعلى الرغم من صرامة فكره النقدي، وبطش حجته المنطقية إلا أنه كان يحمل بين جوانحه قلبا فيه من براءة الطفولة، بقدر ما فيه من التقى والورع.
كنت أتواصل معه بين الفينة والأخرى وفاء لحق التلمذة واعترافا بالتضحية النبيلة التي آثر فيها العيش في وطن المتاعب والمصاعب، كانت آخر مرة تواصلنا فيها في عيد الفطر اتصلت به عدة أيام فكان الهاتف مقفلا، قلقت عليه وحاولت الاتصال بعدها فرنّ الهاتف ورد عليّ، فقلتُ له: بعد المعايدة انشغلت عليك وليس من عادتك أن يكون هاتفك مقفلا، فقال لي: كنت في (كرسه).
في إحدى زياراته إلى طرابلس أتيت من مصراته لأسلم عليه، وآخر مرة رأيته فيها جاء إلى مصراته وقال لي بروحه البشوشة الهادئة: (راني ها لمرة أنا هو لجيتك لعند مصراته).
هل أقول فقدناك يا آخر النجباء؟ لجمع بين الورع والشهرة والعلم والخلق، والتدين الأصيل والتفلسف العميق، مزايا غريبة على أهل هذا الزمان، ولكننا سنحافظ على فسحة الأمل!
رحمك الله، وطيب ثراك وعوض الأمة فيك خيرا.