مرحبا بالأسلوب الاحترافي!

مرحبا بالأسلوب الاحترافي!

من المفارقات السوداء في هذا الزمن أن يُطرح اسم دونالد ترامب لجائزة نوبل للسلام باقتراح من بنيامين نتنياهو، وكأننا نعيش في مسرح عبثي يتهاوى فيه المعنى وتُنسف فيه القيم، هذا الترشيح لم يكن صادمًا فقط لأنه يأتي من أحد أكثر قادة العالم تطرفًا، بل لأنه يفضح حجم الانحدار الأخلاقي الذي وصلت إليه رموز كانت تُفترض يومًا أنها تحمل قداسة المعايير، جائزة نوبل للسلام التي نشأت من إرث رجل صنع الديناميت ليست بريئة من التناقض، فقد وُلدت من قلب صناعة الموت باسم المصالحة الإنسانية.

ألفريد نوبل السويدي اخترع مادة الديناميت وراكم ثروة من ورائها وُظفت في الحروب والتفجيرات وأعمال الهندسة القاسية، ثم شعر بمرارة هذا الإرث، خاصة بعد أن نشرت صحيفة فرنسية نعيًا خاطئًا بعنوان «مات تاجر الموت» وهو حي، فقرر أن يُخلد اسمه لا كمخترعٍ للدمار بل كراعٍ للسلام، فكتب في وصيته أن تُخصص ثروته لجوائز في العلوم والأدب والسلام ليحاول كفكفة ما انطلق من يديه من بارود، ولكن حتى هذه الرغبة في التكفير لم تصمد طويلًا أمام اختراق السياسة وتواطؤ المصالح.

جائزة نوبل للسلام لم تكن دومًا وفيّة لمقاصدها، فقد منحت أحيانًا لمستحقين حقيقيين كنيلسون مانديلا ومالكوم لوثر كينغ ومالالا يوسفزاي، لكن هذا لم يمنعها من السقوط مرات كثيرة. منحت مثلًا لهنري كيسنجر عام 1973، رغم أن الوثائق الأميركية أظهرت لاحقًا دوره المباشر في الانقلاب على حكومة سلفادور أليندي في تشيلي، وتغطيته لمجازر في كمبوديا ولاوس. كما منحت الجائزة لباراك أوباما عام 2009 قبل أن يُكمل عامه الأول، بينما كان يُصعّد حملات القصف بطائرات الدرون التي قتلت مئات المدنيين في باكستان وأفغانستان واليمن، بل إن كثيرين من الحاصلين على الجائزة تبين لاحقًا أنهم كانوا جزءًا من منظومة الهيمنة أو شركاء في ظلم ما. كانت الجائزة أحيانًا أقرب إلى وسام دبلوماسي منها إلى شهادة أخلاقية.

في هذا السياق يُفهم ترشيح ترامب، فهو لم يُطرح اسمه بسبب مسار نضالي أو مبادرة حقيقية لنزع فتيل حرب، بل بسبب «اتفاقات إبراهام» التي طبّعت فيها دول عربية علاقاتها مع إسرائيل برعاية أميركية. هذه الاتفاقات التي يتغنى بها نتنياهو لم تكن سلامًا بقدر ما كانت صفقات تجارية وأمنية تمر فوق أشلاء القضية الفلسطينية. فقد جرى تجاوز حقوق الفلسطينيين بالكامل، لا حديث عن القدس، لا عن الدولة، لا عن اللاجئين، ولا عن وقف الاستيطان، بل في المقابل حصلت بعض الدول على أسلحة متطورة أو وعود بمكاسب اقتصادية، بينما جرى تسويق المشهد كله وكأنه فتح تاريخي.

ترامب لم يكن وسيطًا بل طرفًا منحازًا بالكامل. نقل سفارة بلاده إلى القدس في تحدٍّ صارخ للقانون الدولي، رغم الاعتراضات الأممية والشعبية، حتى إن 128 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة صوتت ضد قراره. أوقف دعم الأونروا، أغلق مكتب منظمة التحرير، قدّم ما سُمي بصفقة القرن التي حوّلت الاحتلال إلى أمر واقع بلا مقاومة. وفي ظل كل ذلك يُطرح اسمه كصانع سلام، فهل يمكن أن نكافئ من كرّس الظلم ومنح الشرعية للاحتلال؟ إذا كان السلام يقاس بعدد الدول المطبّعة لا بعدد الحقوق المستعادة فإن المفهوم نفسه بات في أزمة

وفقًا لما كتبه ألفريد نوبل في وصيته فإن الجائزة يجب أن تُمنح لمن عمل على تقارب بين الشعوب، أو خفّف من التسلح، أو دعم المؤتمرات الدولية لتسوية النزاعات. فأين ترامب من هذا؟ لقد مزّق الاتفاق النووي مع إيران، انسحب من اتفاقية المناخ، ورفض منظمة الصحة العالمية. قاد خطابًا داخليًا عنصريًا قسّم المجتمع الأميركي، دعم الحروب بالوكالة، ورفع ميزانية الدفاع إلى أرقام غير مسبوقة. بل إن ولايته انتهت بمحاولة انقلاب على نتائج الانتخابات واقتحام للكونغرس، فهل هذا تاريخ يُكلل بجائزة للسلام؟

لا يمكن لمن يُقسم العالم إلى «نحن» و«هم» أن يكون صانع سلام، ولا لمن يبتز الدول ويهين الأقليات ويستعرض القوة في وجه الضعفاء أن يُعامل كرمز إنساني. فالجائزة لا تُمنح لمن يعقد الصفقات بل لمن يضحي من أجل العدالة. ليس من يضع توقيعًا تحت الطاولة، بل من يقف في وجه الطغيان. لا من يروّج لتطبيع بلا كرامة، بل من يعيد الأرض لأصحابها.

نتنياهو ليس مؤهلًا لتحديد من هو رجل السلام، فهو ذاته الراعي للاستيطان، المحاصر لغزة، المبرر لجرائم الجيش الإسرائيلي، شريك الحرب لا السلام. تحت قيادته شُنّت ثلاث حروب مدمرة على غزة بين 2008 و2021 راح ضحيتها آلاف المدنيين، بينهم نساء وأطفال. كما شجّع تمرير قانون «الدولة القومية اليهودية» الذي نصّ صراحة على أن الحق في تقرير المصير محصور باليهود وحدهم، في إنكارٍ صريح لحقوق العرب داخل إسرائيل. وإذا كان هذا الرجل يرى في ترامب شريكًا طبيعيًا في صناعة المستقبل فهذا ليس مديحًا لترامب، بل إدانة مزدوجة لهما معًا. فالسلام الذي يتحدثان عنه ليس أكثر من استثمار سياسي في زمن هش.

ربما علينا أن نعيد النظر في الجائزة نفسها. من يمنحها؟ من يرشح لها؟ من يقرر؟ وهل هناك رقابة مستقلة؟ هل بقيت الجائزة رمزًا للقيم أم أصبحت امتدادًا للعلاقات العامة الدولية؟ إن لم تُراجع هذه الجائزة نفسها، فإنها ستفقد ما تبقى من احترامها، وستتحول إلى ميدالية بلا معنى توضع على صدور من يُجمّلون القبح أو من يبرعون في فن التواطؤ. السلام لا يكون بالقوة، ولا يُفرض بالضغط، ولا يُشترى، ولا يُباع. السلام الحقيقي هو استعادة للحق، وتحرير للمقهور، واعتراف بالعدالة. وكل ما فعله ترامب لا يدخل في هذا السياق، بل يتناقض معه تمامًا. لذا فإن مجرد طرح اسمه ليس فقط نكتة سوداء، بل إعلان موت رمزي للجائزة نفسها.

إذا أرادت نوبل أن تبقى حيّة فعليها أن ترفض بوضوح هذا النوع من الترشيحات. لا يكفي الصمت، ولا المواربة. لجنة الجائزة لم ترد رسميًا على ترشيح نتنياهو لترامب، كما لم تُصدر بيانًا توضيحيًا رغم الضجة الإعلامية. عليها أن تتبرأ من أن تكون أداة في يد السلطة، وأن تعود إلى جوهرها الأول. فإما أن تكون جائزة لأصحاب الضمير، أو تصبح شاهد زور في محكمة الظلم.