لم يكن يهمني أن ينشروا قصتي!

لما تجاسرت ودخلت بلادا في حالة فوضى، عايشت يوميات ما يدعونه ثورة حينا وفي حين آخر انتفاضة، تنقلت بين مدن كبرى وصغرى وزرت قرى. دماء جدي التي تجري في عروقي، دفعتني إلى منطقة الحرب، تاركة المظاهرات اليومية المتكررة، ما خبرتها كفرنسية حتى الملل. الحرب بطبيعتها مفارقة، وهذه الحرب المفارقة، فالسلطة مدججة بالسلاح، ومعارضوها مدججون بالإرادة فحسب، وأين على حافة الصحراء، مكان جدي ما أغواني
ركبت مركب الخطر مع مقاتلين عزل، يدعون تحرير الأرض من سلطة مغتصبة، التي بدورها تسمي مهمتها حرب الاسترداد، من متمردين عملاء للخارج. رغم هذه العجبة لم أستغرب ما أسمع وأرى، لكن ما أجج متناقضات نفسي، أني تربيت وتعلمت في جو السلام، فكنت أجنح إليه، ضد ما أغوص فيه، بحر الدماء هذا، ما أشجب في خاطري.
ولهذا ما أرسلت من تقارير مليئة بتناقضات، حسب إشارة رئاسة التحرير لي، التي عندما طلبت مني الانتباه، أجبتهم أن عيبها الصدق وحدته، ما صبغه أهل البلاد الصادقون إلى حد لا يصدق.
التقرير الأول ما لم يصدقوا: المعركة حامية والانفجارات تعم كل مكان، وبرفقة ثلة من شباب تحت العشرين، يحيطون بي لحمايتي، كنت متربصة في مكان قريب، من جنود النظام، حيث كنت أراهم، خاصة عندما يطلقون زخات من قذائفهم، التي قذيفة منها انفجرت عند ملاذي، هرعت مهرولة من رعب نحو الجنود، اندفع نحوي صبي لم يحلق شعر لحيته بعد، وتحت وابل القذائف رمى جسده عليّ. شظية أصابت كتفه، وهو يجرني خلف ربوة حيث كنا نتربص، لما وصلنا المراد سقط مغشيا عليه، ولم يفق إلا في المستشفى أين زرته.
والجدير بالذكر، أن سلاح جيش السلطة مدافع ودبابات، في حين الثوار بنادق نصف آلية وكلاشنكوف، وحتى سلاح أبيض. لم تصدق رئاسة التحرير الكثير من تقاريري، بل حتى الصور المرفقة، لشباب أعزل من السلاح يندفع لمقدمة الجبهة.
لم أهتم أن يصدقوا روايتي، فالحقيقة دائما مبهمة كسطوع الشمس في عيني، عندما ولجت للمرة الأولى الصحراء، جدي كثيرا ما أكد لي، أن الحقيقة صحراء طبيعتها مملوءة بالسراب. وعندما توغلت في الأحداث الجارية، وجدت أن بلاد الصحراء الكبرى هذه، ربيعها مباغت كالسراب، وأن ما قرأت عنها وعنهم، إما قديم وحقائق بائتة وإما مصادرة على المطلوب، أي حقائق أردناها فوضعناها عنهم، لتشبع حاجة ماسة لدينا. ومنذ جئت، هذه الأحداث الكبرى في الصحاري الكبرى، ما أطلقنا عليها الربيع، لقيت الكثير ليس مما لا نعرف فحسب، بل وما لم نرد أن نعرف.
هذا مما رددته على رفيقي، من يزوم كجمل معلقا: دعي الأحداث تخبرك بما لم تزود، أعرف أنه لا يشير إلى صغر سني أو قلة تجربتي، بل إن الحياة، باعتبار أنه في عمر جدي، قد أخبرته أن ليس من عالم دون مختبر. وقد أخذت محمومة أدون وأدوزن بالتدوين، ما أشاهد وما أسمع في مختبري، لكن الأهم أني كنت أعيش بكل جوارحي ما يحدث، وقد غصت في الصحراء مع رفيقي من غصت في جسده وعقله، وكذلك تدافعت مع أكتاف وأجساد الجموع المتظاهرة في المدن.
أحد المتظاهرين في حمى ليلة تظاهر لا يتوقف، روى لي شذرة مما حدث، في صباح اليوم التالي تقابلنا في الفندق، فأخبرني أنه يبحث عني، ثم ترجم لي بفرنسية ركيكة مثلا عربيا: ليس الخبر كالعيان، أوضحت له أننا نقول ذلك أيضا. ثم ألح عليّ أن نذهب معا إلى الموقع، ما شخص يدعى «زيو» فجر فيه جسده، من هو ليس بمسلم متطرف، موضحا ذلك ومضيفا ساخرا أنه كميكازي ياباني! كي تفهمي القصد. اتصلت برفيقي، فطلب أن أعطي الموبايل إلى ذلك الملحاح، تكلم معه ثم قال لي إن الاقتراح معقول والشخص موثوق.
في عين المكان شاهدت سيارة محترقة وبقايا عبوات غاز طبخ متفجرة، ما حملها «زيو» في سيارته ثم أشعلها، ودك بها وجسده سور مركز قيادة جيش الحكومة أو كما قال.
لقد فتح بجسده كوة في سور المعسكر، فتمكن المتظاهرون من اقتحامه والسيطرة عليه، بعد أن حاصروه لوقت طويل بأجسادهم، فقتل بعضًا من جنود حامية المعسكر، فما دفع «زيو» إلى فكرته المجنونة؟ كتبت الحادثة في تقريري الصحفي، معلقة أن العنف يولد العنف، وأني شاركت في مظاهرة في باريس، كطالبة للمطالبة بحقوق للمهاجرين، وقد ووجهت التظاهرة بعنف من الشرطة، لأن أغلب المشاركين في التظاهرة من المهاجرين، من أكثرهم ليسوا من البيض، لكن العنف بطبيعة الحال، لم يصل إلى القتل فعملية انتحارية ضده. كتبت ذلك حتى يتم نشر تقريري، دون ملاحظات من رئيس التحرير، لكن هذا ما دفعني إلى التفكر، فيما أشاهد من انقلاب تظاهرات سلمية إلى تحارب أهلي.