الهيكلية في الهوية الليبية

لم تظهر الطبقات في المجتمع الليبي بأنماط إنتاجه الخمسة، فالناس متساوون في جميع أنحاء البلاد إلا في استثناءات قليلة. فلا توجد ألقاب تبجيل مثل تلك الموجودة في مصر والشام وتونس والمغرب، فكلمة سيدي لا تقال إلا للأب في الريف الغربي، وتقال للعم في تاجوراء وريف طرابلس القريب، وتطلق في بادية برقة على إمام الطريقة السنوسية، سيدي المهدي ثم سيدي إدريس، وفي كل أنحاء ليبيا تطلق على الأولياء الصالحين.
ولم يحظ بلقب باشا في العهد العثماني والإيطالي إلا عدد قليل من الليبيين، مثل صالح الأطيوش زعيم قبيلة المغاربة في أجدابيا، والشارف الغرياني الكميشي، وسليمان الباروني، وعمر الكيخيا، وطبعا كل حكام القرهمانلليين وحتى عميد بلدية طرابلس في العهد الإيطالي حسونة باشا القرهمانللي، وكانت الباشوية يمنحها السلطان العثماني، ثم جاء الطليان فثبتوها لكل من تعاون معهم، وهي ألقاب قليلة إذا ما قارناها بباشوات مصر، قبل أن يمنحها الناس لكل عابر سبيل، وفي المغرب يمكنك سماعها من أي نادل في أي مطعم أو مقهى، ولكنها ليست متاحة في ليبيا.
يطلق الليبيون على زعيم القبيلة لقب الشيخ، وعلى الإمام لقب الإمام أو الفقيه، أما المعروف بكثرة الصلاة منذ صغره فيطلقون عليه لقب التايب، ومع انتشار التعليم ومعاهد المعلمين أطلق لقب الشيخ على المعلمين في الريف الغربي، وفي المدن أطلق على المعلم لقب الأستاذ، ثم عمموها على كل المتعلمين والتخصصات، واحتكر الطبيب لقب الدكتور ثم عمموه على حملة شهادة الدكتوراه، وأطلقوا على المهندس لقب باشا مهندس التي أخذوها عن المصريين، ثم ظهر لقب فضيلة الشيخ لمن تخصص في الفقه والعلوم الشرعية، وكان أهل المدن يعظمون هؤلاء ويقبلون أيديهم ورؤوسهم، ومن الأمثال التي سمعتها في طرابلس مثل يقول «من معرفته في القاضي كب على شيخ اليهود»، أي قبل رأسه ويطلق المثل على المخطئ في أي مسألة، بينما استأثر الحكام في دول الخليج بلقب الشيخ، فلا يجوز أن تطلق على غيرهم.
في فزان بسبب إرث العبودية يطلق من كانوا من العبيد على أسيادهم حتى بعد تحررهم لقب «سيدي»، وحتى في الأعراس يتولون هم العوالة ولا يدخلون إلى بيوت سادتهم السابقين إلا إذا طلب منهم ذلك، وحتى في العيد ينتظرون السادة خارج البيت حتى يخرجوا ليباركوا لهم بالعيد، ونجد هذا السلوك بقوة في زوارة وفي قرى البربر بالجبل وأيضا بين الطوارق، أما في بنغازي فاختفى هذا اللقب بالكامل، ولم يبق منه إلا أطلال «زرايب العبيد».
كانت هناك علاقة عبودية صارمة ولكن لم تظهر في المجتمع الليبي طبقات، لأن الطبقة تظهر عندما يكون هناك تفاوت كبير في أنماط وعلاقات الإنتاج، وعندما تتمكن شريحة من مراكمة الثروة، وتتمايز عن الآخرين في ثقافتها وسلوكها وعاداتها، وهو ما لم يتحقق حتى الآن بالرغم من ظهور عدد من المليارديرات وعدد أكبر من المليونيرات، ولكنهم لا يختلفون في شيء عن الآخرين، ربما يكون مسكنهم أكبر وأفخم ولديهم سيارات كثيرة، ولكن هذا لا يصنع الوجاهة في المجتمع الليبي، فالوجاهة تصنعها الأخلاق بالدرجة الأولى، ومعظم الذين كونوا ثروات في عهد القذافي أو بعده لا علاقة لهم بالأخلاق.
فشيخ القبيلة في نمط الإنتاج البدوي ونمط الزراعة البعلية والمروية مطاع، لأنه أول من يحضر في الكوارث، ويفدي الناس بأمواله وبكلمته، ولهذا لا بد أن يكون الشيخ من بيت معروف بالزعامة والثروة والمروءة، وهو ما لا يستطيعه أثرياء نهب الدولة وأثرياء الحروب، ولكن كل الثروات تكونت بهذه الطريقة، فطبقة النبلاء في أوروبا تكونت من عرق عبيد الأرض في النظام الإقطاعي، وثروة الطبقة البرجوازية تكونت من عرق عمال المصانع ومن نهب شعوب العالم الثالث، وذات يوم سيتطور المجتمع الليبي وينقسم إلى طبقات، ويخفى كل هذا الماضي المخزي بأكاذيب تحدثت عن عبقرية الجد وحكمته في صنع ثروتهم.
في غريان تعرفت على عدد من شيوخ القبائل كانوا أميين، ولكنهم كانوا في منتهى الحكمة والذكاء والحزم. أحدهم كان يطلب من المتعلمين كتابة العلم والخبر بعد أن يملي عليهم صيغته، ثم يطلب منهم قراءة ما كتبوا، فإذا حدث تزوير يكتشفه بفراسة حادة، عندما يتغير صوت القارئ، أو تتغير الصياغة فينهب الورقة ويمزقها ويطلب منه العودة فيما بعد عندما يكون ولده موجودا ليكتب له العلم والخبر.
في المجتمع الليبي لا يبجل إلا الحاكم، ويتحول تبجيلهم إلى صناعة تدر الكثير من الأموال. تقريبا أطلق على معمر القذافي 99 لقبا على عدد الأسماء الحسنى، ولو طلب المزيد لأعطوه فبعد موته أطلقوا عليه لقب «الشهيد الصائم»، وهو الذي كان لا يحترم لا رمضان ولا شعبان بشهادة بعض حراسه. إنه القائد الذي يقبلون يده ويقبلون صدره حتى ولو كانوا أطول قامة منه، ولكن تقبيل الصدر بدلا من الرأس يعطي انطباعا يحرص عليه القذافي وهو أنه الأطول قامة بين كل الليبيين وكل الرؤساء العرب والأفارقة.
أما الرئيس الأطول قامة منه مثل رئيس السنغال عبدو ضيوف أو بشار الأسد فلا حاجة له لمقابلتهم وجها لوجه، يكتفي بالاتصال الهاتفي، وإذا حضروا يظهرون في نشرة الأخبار وهم يجلسون أمامه، حتى الملك إدريس الذي كان زاهدا في ألقاب التبجيل الملكية فرضوا عليه هذه الألقاب في آخر عده، فلقب بجلالة الملك والملك المعظم، بينما يسخر أعضاء اللجان الثورية من المسؤولين المغاربة وهم يقفون في طابور لتقبيل يد الملك، وهم يفعلون نفس الشيء عندما يقابلون قائدهم، وهذه الأيام يوزع الليبيون في الشرق الألقاب والرتب بسخاء على من يحكمهم. إنه مجتمع يجيد صنع الطغاة ويعامل البسطاء باحتقار، ولو كانوا أشرف منهم نسبا وعلما.