وجهة نظر ورأي مغاير!

وجهة نظر ورأي مغاير!

ألّف الكاتب الأكاديمي الأمريكي «إلتون تروبولد» (Elton Trueblood) كتبًا عدة، منها كتاب «مأزق الإنسان المعاصر» The Predicament of Modern Man، الذي على الرغم من قصره، حظى باهتمام لافت للنظر بسبب رؤية، خلاصتها أن البحث عن الأخلاق دون أساس ديني هو جهد عقيم.

وابتكر «إلتون» مصطلح «حضارة الزهور المقطوفة» لزمن ما بعد الحرب العالمية الثانية، ملخصا وجهة نظره بأن «الخطر المُريع في عصرنا يكمن في كون حضارتنا حضارة زهور مقطوفة، فمهما بدت الزهور المقطوفة جميلة، ومهما بذلنا من جهد لإبقائها نضرة فترة، فإنها ستموت في النهاية، وتموت لأنها مُنفصلة عن جذورها الداعمة، فنحن نسعى للحفاظ على كرامة الفرد بعيدًا عن إيماننا الراسخ بأن كل إنسان خُلق على صورة الله، وبالتالي فهو ثمين في نظره».

ومما ورد في كتابه هذا موضوع عنوانه «لا تخجل من عواطفك!»، مستهلا بجملة منطقية تقول: «ليس ثمة ما هو أكثر غرابة في أيامنا من الانقياد للعاطفة. ولعل أغرب ما في هذا الخوف أنه يناقض نفسه، إذ اعتدنا، كبارا أو صغارا، أن نهلل في حماسة بالغة لمباريات كرة القدم، في الوقت الذي نخجل فيه من إظهار شعورنا العميق نحو مظاهر الانتماء للوطن، بل الأدهى خجلنا أكثر أن نُظهره تجاه معتقداتنا الدينية، وهذا، وحق الله، مخجل للغاية!».

ويضيف الكاتب: «إننا نستحى من إظهار عواطفنا التي تمس شخصيتنا، دينية كانت أم وطنية، في حين نبالغ في إظهار عواطفنا تجاه فريق كرة القدم الذي نشجعه!». ويفسر ذلك بأن سبب ذلك هو أننا لن نكون – كما يعتقد – جديرين بالاحترام إلا إذا حافظنا على هدوئنا، خصوصا إن احتد نقاش بسبب القناعات الاجتماعية والدينية بالدرجة الأولى، وهذا -في تقديري- لا يعكس إيمانا حقيقيا وقناعة بما يعتقده هذا الذي يتأثر بنقاش معتقده ورفع شأنه.

والعجيب أن المرء يفضل ألا يُظهر عواطفه الجياشة خشية أن يوصف بالسخف والسطحية، فالمرء المتحمس لقضيته أو معتقده يكون عرضة لانفعال قد يُظهره بمظهر الأحمق! وقد تكون قناعته بقضيته سطحية، أو قد يفندها متلقٍ أو يسخر منها أو منه. وبسبب هذه المعطيات، أو بسبب ضعف شخصيته وسطحية قناعته بها، فإنه يختار طريق السلامة ويحتفظ بآرائه، مفضلا الصمت بابتسامة بلهاء، ولو فرض عليه الموقف أن يقول رأيه عن لوحة، على سبيل المثال أو مقالة، فإنه يفضل السلامة، فيأتي رأيه لا لون له ولا أهمية تذكر، وفي الغالب يقتصر تعقيبه: «لا بأس به!» أو «ظريف»، أو كلمات مشابهة. إن أمثال هؤلاء لا يقولون شيئا ذا أهمية، ولكن يصبحون في مأمن من مغبة رأي قد لا يتفق مع آراء بعض الحضور!

ولكن مغبة ذلك خلق فجوة ومساحة بين الناس، فإذا لم نكترث، فإن أعمالا عظيمة لم يقل بشأنها ما يثمنها، لترقى إلى المستوى الذي تستحقه، بسبب تعمدنا كبت مشاعرنا وإحساسنا بها! والعجيب أن الخشية من إبداء الرأي، وأن تُؤثر السلامة، يفقدك أهميتك ككائن، وذلك في الواقع جزء مهم في صنع الحياة النقية الصادقة، فلو جعلنا من عدم إبداء الرأي في أي موضوع مبدأ، فسيكون ذلك بالتأكيد تأثيره سلبيا للغاية، فمن يؤثر السلامة لا بد أنه يخشى مناقشة دينه خشية أن يُساء تفسيره، أو لا ينجب أطفالا خشية أن يكونوا غير صالحين. إن من يسلكون الطريق نحو شاطئ الأمان يفقدون متعة الحياة، إذ تظل الخشية والخوف من عدم قبول الآخرين وجهات نظرهم هاجسا يُبعدهم عن متعة الحياة والمعرفة.

أما أصعب وأخطر مغبات الخشية من إبداء الرأي فهي -في تقديري- الخشية من مناقشة أمور منطقية تمس ديننا، خوفا من سوء فهم المتلقي، بينما يتطلع السائل إلى القناعة بما لم يفهمه تماما. ولعل ما سمعته ذات يوم في خطبة صلاة يوم جمعة رأيا أصر المرحوم الشيخ فرج بوعود على أن يفسره بوضوح شديد، وخلاصته أن المقصود بالسائل الذي لا يُنهر ليس فقط الشحات المسكين، وإنما السائل عن المعلومة أيضا، وأذكر أنه أورد الكثير من الأمثلة عنه.

الخلاصة، إنه علينا أن نتقبل آراءنا، وأن نتفهم بهدوء الرأي الآخر من دون تسفيهه، ونحاول توضيحه ومعرفته، حتى نكون جزءا فعالا في مجتمع كثرت فيه كلمة «الديمقراطية» التي من أساسياتها سماع الرأي الآخر وتفهمه، ومناقشته بهدوء دون أحكام مسبقة.. ألا تتفقون معي في حاجتنا الشديدة لفهم بعضنا البعض؟