العودة وشفرة مزدوجة

بعد الاستقلال بدأت العائلات الليبية التي هاجرت إلى تونس زمن الاحتلال الإيطالي العودة إلى البلاد، وزادت وتيرة العودة بعد تصدير النفط وتحسن الأوضاع المعيشية في ليبيا، وكان الليبيون قد توزعوا بين مدن الساحل التونسي وريف الجنوب، فالذين هاجروا إلى جنوب تونس عملوا في مناجم الفوسفات، ومعظمهم جاءوا من الريف الليبي، وبالتالي كانت عودتهم إلى ليبيا واندماجهم في قراهم وبين أقاربهم أيسر من أولئك الذين عادوا من المدن إلى طرابلس، ومع ذلك فقد تعرضوا للسخرية بسبب لهجتهم التونسية، وثمة من أطلق عليه أقاربه لقب التونسي، ولكنهم اندمجوا بسرعة مقارنة مع الذين عادوا إلى طرابلس.
السبب في سرعة اندماج الريفيين مقارنة بالذين عادوا إلى طرابلس، هو تشابه نمط الإنتاج في الريف التونسي والليبي، واختلاف نمط الإنتاج في الساحل التونسي والساحل الليبي، فنمط الإنتاج ليس فقط النشاط الاقتصادي وإنما هو أيضاً البنية الفوقية المتمثلة في القيم والسلوك، إذا استثنينا النشاط المنجمي غير الموجود في ليبيا، وهو نشاط عمل فيه الليبيون عمالاً بأجر رخيص مقارنة بأجور العمال التونسيين، الذين لديهم نقابات تدافع عن حقوقهم أمام الشركات الفرنسية التي كانت تحتكر استخراج الفوسفات والتي كانت تفضل العمال الليبيين فهم مهاجرون ليست لهم حقوق ولا من يدافع عنها، وبعضهم تحسنت أحوالهم حتى في الريف التونسي الفقير لأنهم عملوا في التجارة والمقاولات، وقال لي أحد أقاربي وكان له محل بقالة في الجنوب التونسي، إن أحواله تحسنت حتى إنه لم يعد يلتفت نحو الشرق أي نحو ليبيا، لولا أن القبلة أثناء الصلاة تتجه نحو الشرق، ولكن ووفقاً للمثل «يقول الطير وكري وكري»، ولم يشتك أحد من سوء معاملة أو تمييز من التوانسة، فالبلدان كانا محتلين من قوات أجنبية، وكما يقال «مضروبين بعصا واحدة».
عادوا بأكلات متشابهة مع أكلات الريف الليبي، ولكن مع بعض الاختلافات أيضا، وأنواع من الخضروات والبقوليات لم تكن مستخدمة من قبل، كما عادوا بأغانٍ مشتركة بين البلدين وإن تغيرت بعض كلماتها، وتخلوا عن ملابسهم التي كانوا يرتدونها في تونس، فالذي عاد بالبرنوس التونسي تخلى عنه وارتدى العباءة أو الجرد الليبي، وأعرف أشقاء بعضهم فضل البقاء في تونس، فعادوا ليبيعوا ما تبقى من ممتلكاتهم واستقروا إلى الأبد هناك، بينما استقر أشقاؤهم في ليبيا.
المشكلة كانت في الذين عادوا إلى طرابلس، فقد عادوا بقيم وأخلاقيات التاجر البحار كما وصفه المؤرخ الهادي التيمومي في كتابه «كيف صار التونسيون تونسيين». مزيج من الكياسة وتنميق الكلام والحذلقة والقدرة على المفاوضة، وهذا النمط وإن كان له وجود في طرابلس القديمة لكنه مختلف، وخاصة وضع المرأة في مجتمع العائدين، فقد كان وضعاً مستفزاً حتى للعائلات الطرابلسية. امرأة تخرج سافرة وتتأبط ذراع زوجها، وتسلم على الضيف عند دخوله إلى البيت، ويستشيرها زوجها في كل كبيرة وصغيرة، أمر لم يتعود عليه الليبيون حتى في حاضرتهم الكبرى.
ودون اتفاق قرروا عزلهم والتبرؤ منهم، وهكذا ظهر مصطلح «عائدون» لوصمهم على الرغم من أصولهم الليبية الواضحة، وخاصة أنهم فشلوا في الاندماج حتى مع أقاربهم في الريف الليبي بعاداتهم المختلفة حتى عن عادات طرابلس، وتميز العائدون بمهارات إدارية تحتاج إليها الرأسمالية الوطنية الوليدة، وإجادة اللغة الفرنسية الأكثر انتشاراً من اللغة الإيطالية التي كان يجيدها الطرابلسيون، وأيضاً خبرة جيدة في العمل في المصارف والمؤسسات المالية، وهكذا تحولوا إلى منافس خطر على نخبة «أولاد البلاد»، وأدى ذلك إلى زيادة حدة التمييز، وأعرف أشخاصاً من هؤلاء دفعوا رشى لتغيير مكان الميلاد في وثائقهم الشخصية، واستمر مصطلح العائدون رائجاً طوال الستينيات والسبعينيات، يخبو حيناً ثم يشتعل في أول خلاف، ومع دخول البلاد في عقد الثمانينيات الأسود باشتراكيته البدوية بدأ المصطلح في الاختفاء، فالجميع يرتدي بذلة عسكرية ويقف في طابور كل شيء، ويهتف للقائد وإنجازاته.
هيمنة النمط البدوي على كل البلاد جعلت الخلافات الهامشية بين المستقرين والعائدين تتلاشى، فالجميع مضروب بعصا واحدة والجميع يطبخ في طنجرة الضغط، لولا أن المصطلح عاد مرة أخرى وتحديدا في مصراتة في العام 2011، عندما اضطرت العائلات التي تعيش في ريفها إلى الهروب من القتل والاغتصاب، وعندما تحررت المدينة رفض سكانها عودة هؤلاء ووصموهم بـ«العائدون»، ولكن هذه المرة الخلاف ليس بين نمطي الإنتاج وإنما الخلاف حول انسحابهم من الدفاع عن المدينة، وحُل الخلاف بعد تدخلات طويلة وعادوا إلى بيوتهم، وكانت المشكلة أبسط من مشكلة عودة النازجين من تاورغاء.
وبعد مدة ظهر مصطلح «دبل شفرة» لوصم المعارضين العائدين بعد سقوط نظام القذافي، وخاصة الذين تولوا مناصب رفيعة في النظام الجديد، وهذه المرة ليس الخلاف بسب التباين في أنماط الإنتاج، وإنما بسب اختلافات سياسية وأيديولوجية كانت موجودة في أنماط الإنتاج الرئيسية السائدة في ليبيا، وهي أنماط لا يُعرف تسوية خلافاتها بالتوافق وإنما بالغلبة.