قرصنة في طرابلس

قرصنة في طرابلس

لم يكن لكلمة قرصنة وقراصنة المدلول السلبي الذي عليه الآن في معظم اللغات، والتي تعني لصا أو قاطع الطريق في البحر، وعمَّق قراصنة الصومال وسلسلة أفلام قراصنة الكاريبي هذا المدلول، ولكن كان للقرصنة عندما بدأت في أواخر القرن الخامس عشر مدلول إيجابي، ارتبط بالجهاد في البحر، ففي عام 1492 وهو العام الذي سقطت فيه غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، اختار سكان طرابلس الشيخ عبد الله بن شرف حاكما على البلاد. كان شيخا زاهدا متفرغا للعبادة حتى لقب بالمرابط، ولكن عندما أرغمه سكان المدينة على تولي مسؤولية الحكم، أمر بإعداد مراكب شراعية صغيرة مسلحة للقرصنة على سفن النصارى، واستهدف بحارة طرابلس جزيرتي صقلية ورودس، وكانت صقلية يحتلها الإسبان مما جعل ملك إسبانيا يقرر احتلال مدينة بجاية في الجزائر ومدينة طرابلس، وبعد فشل القائد العسكري الإسباني بيدرو دي نفارو في احتلال بجاية بسبب انتشار الطاعون، توجه إلى طرابلس التي احتلها يوم 25 يوليو عام 1510 يوم القديس يعقوب، وهكذا انتهت أول تجربة يختار فيها سكان المدينة من يحكمهم، وأول نشاط لقراصنتها، والذي حول المدينة إلى واحدة من أغنى المدن على ساحل المتوسط، لدرجة أن المخيلة الشعبية اخترعت قصة خلو المدينة من السلاح، وقصة التجار الإسبان الذين استضافهم تاجر طرابلسي، وعندما أحضر دلاعة «بطيخة» لم يجد في بيته وبيوت جيرانه سكينا لفتح البطيخة، مما جعل الإسبان يطمعون في هذه المدينة المسالمة التي نسى أهلها القتال، بينما كان قراصنة المدينة يجوبون البحر المتوسط بالبنادق والمدافع والسيوف.

عادت القرصنة بعد نجاح الأتراك في تحرير المدينة من فرسان القديس يوحنا عام 1551، بعد أن تخلى عنها الإسبان لهؤلاء الفرسان عام 1530، وتولى درغوث باشا قيادة القراصنة حتى استشهد على أسوار مالطا عام 1565 ودفن بجامعه في المدينة القديمة بباب البحر، كما اشتهر في هذه الفترة الأخوان خير الدين وعروج برباروسا، وهو لقب أطلقه عليهما الأوروبيون والذي يعني ذا اللحية الحمراء. شهدت تلك الفترة أكبر توسع للدولة العثمانية تحت حكم السلطان سليمان القانوني برا وبحرا.
وبالتدريج تحولت القرصنة إلى أهم مورد اقتصادي لطرابلس، بالإضافة إلى تجارة العبيد وتجارة القوافل، وعندما يستعد القراصنة للخروج إلى البحر، يساهم تجار وأثرياء المدينة في تجهيزهم مقابل نسبة من الغنائم، وعندما يعودون محملين بالغنائم تنتعش المدينة، بالبضائع والسلع الأوروبية والقادمة من آسيا ومن أميركا اللاتينية، ووصلت مراكب قراصنة طرابلس إلى الموانئ الإسبانية وميناء مرسيليا وطولون، كما وصلت إلى جميع الموانئ الإيطالية واليونانية، أما أغلى الغنائم فهي الأسرى الذين يبعثون لعائلاتهم يطالبونهم بدفع فدية كبيرة، فإذا كان الأسير من عائلة غنية يفوز القراصنة بفدية كبيرة، أما إذا كان من عائلة فقيرة فيباع في سوق العبيد سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، فإذا بقى في المدينة يتحول إلى الإسلام وهو وحظه، فمصطفى قرجي القادم من جورجيا أصبح رئيس المرسى وعديل يوسف باشا، والريس مراد القادم من إسكتلندا أصبح قائد البحرية، ومن يؤسر من المسلمين يتحول إلى المسيحية مثلما حدث مع الحسن الوزان، أو ليون الأفريقي وفقا لاسمه المسيحي.

مع وصول أحمد القرهمانللي إلى السلطة عام 1711 استؤنفت القرصنة البحرية على نطاق واسع، وظهرت دبلوماسية البوارج الحربية أمام قلعة طرابلس، فالدول المتضررة من عش القراصنة في طرابلس، ترسل بوارجها الحربية لتقصف المدينة، بينما يلجأ الباشا إلى بستانه الذي تحول إلى المتحف الإسلامي في حي سيدي خليفة في مدخل حي الشيخة راضية، في حين يهرب السكان إلى تاجوراء وبساتين المنشية، ويستعد فرسان الساحل والمنشية لأي إنزال على البر، بينما تتولى مدافع القلعة وستة أبراج وحصن درغوث وحصن الطابية وحصن المندريك الرد على مدافع الأساطيل الأوروبية. تستمر الحملة والحصار عدة أيام قبل أن تنتهي على مائدة المفاوضات في قاعة السفراء، والتوصل إلى معاهدة جديدة تنص على عدم التعرض لجميع السفن التي تحمل علم تلك الدولة، مقابل عائد مالي سنوي يمنح للباشا، بالإضافة إلى هدايا تشمل أسلحة ومدافع، ومع وصول يوسف باشا إلى السلطة حصنت إنجلترا وفرنسا أساطيلها من هجمات قراصنة طرابلس، بل تحالف يوسف باشا مع نابليون خلال حملته على مصر وزوده بالمؤن، وفي هذه الفترة ظهر الباسبورت أو جواز السفر، الذي يمكن قراصنة طرابلس من الرسو في مينائي مرسيليا وطولون والتزود بالمؤن والماء وإصلاح الأضرار، وظهرت قوة بحرية جديدة وهي الولايات المتحدة لتخوض أول حرب لها خارج حدودها مع قراصنة طرابلس، والتي استمرت أربع سنوات، وأسفرت عن أسر البارجة فيلادلفيا وثلاثمائة من طاقمها، تلك الوقائع التي سجلها الطبيب جوناثان كودري طبيب البارجة في مذكراته بعد أن وقع في الأسر عام 1803.

كانت القرصنة البحرية خيارا استراتيجيا خاطئا، تشبه إلى حد كبير خيار الإرهاب الذي اعتمده القذافي فيما بعد وانتهى بكارثة، فعلى الرغم من مهارة القراصنة الليبيين وخبرتهم الطويلة، إلا أن جميع ما يحتاجون إليه يأتي من خصومهم الأوروبيين، من المسامير والخشب والأشرعة وانتهاء بالمدافع والذخائر والسلاح، ولذلك كان الباشا يطلب هذه الأشياء عند التوقيع على معاهدة جديدة، ولهذا لم يكن بإمكانه تجهيز سفن القرصنة في موانئ أخرى على طول الساحل الليبي، وهذا ما أدركه قراصنة تونس في وقت مبكر، فتحولوا من القرصنة إلى التجارة البحرية، وهكذا ولد التاجر البحار الذي سيطر على السلطة في تونس حتى الآن، بينما أثرت القرصنة على الشخصية الليبية، فحولتها إلى شخصية تأخذ ما تريد عنوة، مثلها مثل قاطع الطريق البدوي في البر. التاجر البحار يخضع للقانون لأن القانون هو الذي يحمي تجارته خارج الحدود، ويفضل التفاوض لتسوية الخلافات، وهذا ساعد على نمو ثقافة التوافق والتنازلات المتبادلة، وظهور النقابات والاتحادات المهنية للدفاع عن حقوق أعضائها، بينما اختفت هذه الظواهر في ليبيا، وما يحدث اليوم في طرابلس هو استئناف الصراع القديم بين قراصنة البحر وقطاع الطرق في البر، وبدلا من أن تكون طرابلس عشا للقراصنة تحولت إلى غنيمة للحليفين، أو مسرحا للقتال بينهما.