حول “هرقل” و”موناكو”

أذكر جيدا، أنني كتبت بمقالة، في هذه البوابة الزاهية، أن سيارة «رولز رايز» نقلتني، ذات يوم، من أيام الطفرة، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، رفقة صديق، من باريس إلى شاطئ الريفيرا الفرنسية، وتناولنا، بناء على اقتراح النادل، إفطارا قوامة كبد البط بصلصة الحبق بصالة مطعم الفندق الفخم، الذي كل ما فيه أبيض كالحليب باستثناء ستائره الحريرية الوردية.
قبل ذلك التاريخ لم أعرف أبدا ماذا يدور في (موناكو) ولكن من بعد تلك الزيارة عرفت فقط أن أمير موناكو، تزوج من نجمة السينما الأميركية (جريس كيلي) وأن مساحة هذه الإمارة لا تتعدى كيلومترين ونصف، يعني لا يتعدى طولها المسافة ما بين (دكاكين حميد) شرق بنغازي و(عين زيانه) ولكن تاريخ تأسيسها، وشهرتها لم أعرفه إلاّ مؤخرا، ولأنه عجيب رأيت أن ألخصه لكم، فقد تضعون ذات يوم، مثلما أفعل أحيانا، رجلا فوق أخرى، وأداعب به خيال المنصتين لحديثي الذي أتعمد أن أسهب في وصفه عن البذخ، الذي رأيته في شبابي وما زلت أتطلعإلى أن أراه مرة أخرى.
(موناكو) مجرد صخرة مستطيلة مرتفعة قليلا، يقطعها المرء سيرا على الأقدام في أقل من ساعة، وتدخلها من فرنسا، من دون أن ينبهك أحد إلى أنك دخلت (دولة) ليست فرنسية تماما؛ لا جواز سفر، ولا أختام بدخولها أو الخروج منها، أو أن يفتش أحد حقائبك، أو حتى يرفع حراس الحدود، باب السيارة الخلفي حيث يضع المرء المسافر حقيبته، أو حقائبها إن كانت أنثى! عدد زوارها يبلغ سنويا بضعة ملايين، في الغالب أثرياء للغاية.
وليس في موناكو سوى شارعين مستويين، والبقية إما منحدرات أو سلالم ملتوية، حاكمها سلطان حقيقي! يوقع باسمه؛ (رينيه) الحاكم بإرادة الله! لها جيش قوامه نحو ثمانين رجلا! وعلم (أبيض وأحمر) وبرلمان وقوة بوليس ومتاحف وسكك حديدية، وأتوبيسات، وميزانية برصيد فائض لسد نفقاتها سنة كاملة، ولا ضرائب تجبى من مواطنيها!
كانت ملاذا لأثرياء الإغريق والرومان ويملكون فيها القصور. وبسبب موقعها وجغرافيتها، كان يصعب اقتحامها قبل اختراع المتفجرات. في القرن الثالث عشر استطاع مغامر إيطالي من (جنوا) اسمه (رينيه جريمالدي) أن يقتحم أسوارها بخدعة خلاصتها أنه ألبس جنوده زي الرهبان، فلم يتردد الحراس في فتح أبواب القلعة فاستولى عليها ومنها ظلت عائلته تحكم (موناكو). ولا تزال قصورها الباذخة وأسوارها المنيعة قائمة، قائمة حتى الآن تحيط بها التماثيل الأثرية المنحوتة تبرز تاريخها العتيد. وبناحية نظيفة وحديثة، تنتشر مكاتب الشركات الكبيرة والمتاجر الفخمة والأسواق.
وعلى الرغم من كون هذه الناحية حديثة، ليس بها ما يوحي بتاريخها العتيد إلاّ أن فخامتها وأسماءها ومتاجرها الحديثة تبرز ثراء المدينة، غير أن كازينو القمار الذي يعد الأشهر، بل ومن اللعن، وأفخم كازينوهات القمار في العالم كله، وهناك أيضا دار الأوبرا الشهيرة، والمسارح، والفنادق الكبيرة، والمطاعم العالمية والأندية الليلية وحلبات سباق السيارات المانحة لجائزة (مونت كارلو) التي تعد الأشهر في العالم، أما القصر فيتصدر أرقى المواقع، يحوط به حراسة من رجال الجيش، وقوامهم ستون رجلا، في أكشاكهم، ببزاتهم البراقة المزخرفة.
ويبلغ تعداد سكان (موناكو) أقل من ثلاثين ألفا من الفرنسيين والإيطاليين، ولن يستطع أحد اكتساب جنسية المواطنة في موناكو إلاّ من بعد ثلاثة أجيال، إذ لا بد أن يكون والدك وجدك ولدا فيها، غير أن الحكومة تعفيك من الضرائب بمجرد إقامتك فيها سواء أكنت من مواليدها أم لا! أما ترف الإقامة وثراء أطباق المطاعم العالمية فحدث ولا حرج.
لقد أصبحت مونت كارلو، البقعة الأوروبية الأكثر فخامة لطلاب متع المقامرة وحياة الليل لأغنياء العالم كافة، حيث يتأملون نساء يتبخترن، وكأنهن بلا عظام، وعلى الرغم من ذلك تخلو من أية جرائم، فالقوة الكامنة وراء موناكو هي فرنسا بعملتها المتداولة هناك وتحصل ضرائب مينائها الصغير، ومن المفارقات أنها سوف تصبح محمية فرنسية إن أخفق أميرها الحالي في إنجاب ولي للعهد.
الإغريق سموها (مونويكرس) وهو الاسم الأول لــ(هرقل) إله القوة عندهم، ومنه اشتق اسم الإمارة (موناكو) إذ يبدو أن الثراء قوة حقيقية من حضارة الإغريق.