الظل الأخير: تحليل أسطورة نهضة العرب!

الظل الأخير: تحليل أسطورة نهضة العرب!

في ذروة التحولات الجيوسياسية المتسارعة في الإقليم، يكثر الحديث عن سيناريو اليوم التالي لسقوط إيران، باعتبارها أحد أبرز اللاعبين في معادلة الصراع الإقليمي.

في هذا السياق، جاء مقال منسوب إلى صالح إبراهيم، الأكاديمي الليبي، ليطرح تصوراً مكثفاً، يرسم فيه لوحة مستقبلية سوداوية ترى في سقوط إيران حدثاً كفيلًا بإطلاق موجة هيمنة إسرائيلية شاملة، تقلب المشهد العربي والإسلامي رأساً على عقب.

القضية ليست في محاور القلق التي يثيرها المقال، بل في التفكير الاختزالي الشديد البساطة، وفي أن بنيته التحليلية تقوم على سلسلة من الافتراضات الخطية والتبسيطات الخطيرة التي تستدعي مقاربة نقدية علمية صارمة.

في هذا المقال، سنفكك المنهج الكامن خلف هذه الرؤية، ونضعها في سياق واقعي يعكس تعقيد النظام الإقليمي المعاصر، ويحذر من عدم تطوير التفكير الاستراتيجي بشكل واعٍ وحقيقي، ومخاطر الحديث المنسوب للنخب بمعزل عن استحقاقها من عدمه لذلك الوصف.

مركزية إيران.. تهويل الموقع ووهم الجدار الحامي
يبدأ الدكتور صالح من فرضية جوهرية: سقوط إيران يعني سقوط المنظومة العربية بأكملها. هذا التصور ينطوي على اختزال مخل – وعجيب – لمعادلات القوة والتوازن في الشرق الأوسط:

صحيح أن إيران تشكل قطباً مزعجاً وموازناً في وجه التمدد الإسرائيلي والأمريكي، لكن من الخطأ اختزال معادلة الأمن الإقليمي العربي بوجودها فقط.

لا يمكن تجاهل أن إيران نفسها فاعل إشكالي في أكثر من ساحة عربية، من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن. وتدخلاتها غالباً ما عززت تفكيك البنى الوطنية، وأذكت الصراعات الطائفية والميليشياوية.

وبالتالي، فبناء النظام العربي على اتكالية جيوسياسية على قوى خارجية (مهما بدت معارضة للغرب) يُعد في ذاته مأزقاً وجودياً يُضعف فكرة المشروع العربي المستقل، ومع ذلك فهو غير صحيح كما سنشرح لاحقا.

تعلمنا الأحداث، تكراراً، أن النظام الدولي نفسه لا يسمح بتفرد قوة واحدة بالسيطرة الكاملة على الإقليم، حتى لو تراجعت بعض أركانه. تظل مصالح القوى الكبرى (الصين – روسيا – أوروبا – تركيا – وحتى الهند مستقبلاً) متشابكة بشكل يمنع الحسم الأحادي لأي قطب.

هشاشة مقولة «إمبراطورية إسرائيل المطلقة»
يتعامل المقال مع إسرائيل بوصفها قوة متماسكة، يمكنها بيسر ملء أي فراغ ناتج عن سقوط إيران، دون معوقات داخلية أو خارجية. ويتناسى الكاتب – بغرابة غير مبررة – أن إسرائيل قبيل «طوفان الأقصى» كانت تعيش وضعا ومأزقا، وصفه كثيرون بـ«المصيري»، وبواعثه قائمة حتى مع صمت الغرب المعروف.

لذلك قراءة تجعل إسرائيل قوة لا قابلية لصدها تفتقد للعمق البنيوي، فإسرائيل تواجه انقسامات ديموغرافية متزايدة بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين المتدينين والعلمانيين، فضلاً عن صراع الهوية مع عرب الداخل، وهي انقسامات مرشحة للتفاقم مع تعاظم مشكلاتها الداخلية.

المشروع الصهيوني نفسه يعاني محدودية القوة البشرية في ظل تراجع الهجرة اليهودية إلى الداخل الإسرائيلي، وتصاعد معدلات الهجرة المعاكسة، مما يهدد بتآكل التفوق الديموغرافي على المدى البعيد.

أي توسع إسرائيلي مفرط خارج نطاق الجغرافيا التقليدية سيجعل من إسرائيل قوة احتلال مرهقة، إدارياً وأمنياً. كما أن تداعيات المقاومة الشعبية، إن حصلت، ستكون ذات كلفة طويلة الأمد مهما بدت السيطرة الأمنية آنية.

مرونة الأنظمة العربية وعلاقاتها
بمعزل عن موقفنا الأخلاقي من الموقف الرسمي العربي، من قضايا أمته وأوطانه، فما يفترضه هذا السيناريو المطروح عبارة عن خضوع عربي كامل لأي مشروع هيمنة خارجي بعد انهيار إيران، من تهجير الفلسطينيين إلى إخضاع الخليج والمغرب العربي:

هذه الفرضية تتجاهل أن معظم الدول العربية الكبرى تملك شبكات مصالح وأجهزة أمنية وقدرات تفاوضية قد تضع خطوطاً حمراء أمام أي مخطط توسعي خارجي.

ناهيك عن كون المجتمعات العربية في ذاتها تملك قابلية عالية للممانعة، والارتداد في لحظات الخطر الوجودي، كما شهدنا في مراحل متعددة من التاريخ العربي الحديث.

ويتضح يوميا أن أي محاولات تغيير قسري للتركيبة الديموغرافية أو السياسية في دول، مثل مصر والأردن والجزائر وتونس أو المغرب، قادرة على أن تنتج ردات فعل وطنية عنيفة، تعيد خلط الأوراق بطريقة يصعب التنبؤ بها.

فخ الرعب الذاتي والتعبئة الانفعالية
يستند المقال إلى خطاب تعبوي يميل إلى المبالغة المطلقة في تصوير المشهد المستقبلي، بلغة تقارب الخطاب التحشيدي أكثر من التحليل الاستراتيجي، فالحديث عن يوم القيامة العربي يحوّل أي نقاش عقلاني إلى مناخ نفسي مغلق، يشل القدرة على التفكير المنهجي، وبناء سيناريوهات واقعية متعددة المسارات.

ولعل من وظيفة النخب الفكرية عدم تأجيج الهلع العام، بل تفكيك السيناريوهات، وفرز الممكن من المستحيل، والتأسيس لبدائل واقعية تمكن صناع القرار من بناء استراتيجيات متماسكة.

الأخطر في مثل هذه المقاربات أنها تكرّس غياب الفاعل العربي المستقل من المعادلة، إذ طالما ظل الخطاب العربي أسير تصور أن خلاصه مرهون بقوى خارج ذاته (سواء كانت إيران أو روسيا أو تركيا أو أمريكا نفسها)، ولن يمتلك أبداً القدرة على صياغة مشروع سيادي مستقل.

الجغرافيا السياسية المعاصرة لا تمنح فرصاً دائمة للمظلات الخارجية، بل تفرض ضرورة بناء القوة الذاتية الناعمة والصلبة، من إصلاح سياسي واقتصادي إلى تجديد ثقافي، يفرز أنظمة حكم رشيدة قادرة على تثبيت المصالح الوطنية بمرونة وفاعلية.

إذاً لا سقوط إيران، ولا صعود إسرائيل، ولا تغير المحاور الدولية، يجب أن يشل العقل العربي عن ابتكار مشروع قوة عربية وسط هذا الحراك الجيوسياسي المعقد، ولو نظريا.

بين التهويل والتفكير البنيوي
بينما تنبعث من المقال تحذيرات مشروعة تعكس مخاوف قطاعات واسعة من الشارع العربي، إلا أن البناء التحليلي الذي تقترحه يفتقر إلى التوازن العلمي.

الجغرافيا السياسية لا تتحرك على خطوط مستقيمة، ولا تنهار الأمم بمجرد غياب حليف أو سقوط عدو. ما نحتاجه اليوم ليس تغذية الرعب الجمعي، بل بناء وعي مركب يُعيد للعرب ثقتهم بقدرتهم على الفعل والمبادرة، لا انتظار مصيرهم كنتاج حتمي لصراعات الآخرين.