«إيقاعات الطبول».. تأملات في تجارب عالمية وعربية

في كتابه «دقات الطبول»، الصادر عن الدار العربية للكتاب بالعام 1978، يفرد الكاتب والناقد الراحل سليمان كشلاف (1947-2001) هامشا انطباعيا لرؤيته في تجارب عالمية وعربية ومحلية في فنون الرواية والشعر والقصة.
ما يميز هذه القراءات أو الوقفات استنادها على فهم كشلاف تجارب كتاب تلك الأعمال، والسياقات المعرفية التي تغذيها، وطبيعة المناخ المشكل لها، وإن كانت وجهة نظره لا ترتكز إلى قاعدة منهجية، لكنها تحتفي بجدية التناول ووضوح الفكرة.
وفي تناولنا هذا الكتاب نحاول استعادة بعض من إسهامات هذا الناقد الذي فقدته الساحة الأدبية الليبية، وتبيان قدرته على الانتقال بين نوع أدبي وآخر، واختياراته نصوصا عالمية ظلت ولا تزال محطة مرجعية للكثير من الدراسات الأدبية الحديثة.
عن عالم الروائي الإنجليزي هربرت جورج ويلز
يفتتح كشلاف «دقات الطبول» بالكتابة عن عالم القاص والروائي الانجليزي «هربرت جورج ويلز»، والإشارة إلى عناوين أعماله مثل «20 ألف فرسخ تحت سطح البحر – حول العالم في 80 يوما – حرب العوالم – صانع المعجزات»، ثم يتوقف عند عمله الأثير «آلة الزمن» 1895، حيث يوضح كشلاف أن هربرت في هذه الرواية أجرى تمهيدا لها على شكل محاولة إقناع تعتمد على الشرح النظري والإقناع الجماعي، لذلك فهو يختار نماذج متنافرة من الأشخاص، تتمثل فيها وجهات النظر المختلفة والنظرات المتعاكسة للأمور (عالم نفساني – عمدة من عمد الأرياف – رجل محب للجدل والنقاش – شاب حديث السن جدا)، ويدير هربرت بعد ذلك شرح نظريته بين هؤلاء الأشخاص، ويجيب عن كل سؤال يطرحه واحد من الجماعة المختارين.
ويضيف كشلاف: «هربرت يصور مرور الأجيال إلى أن صارت المصانع كلها تحت الأرض، وزادت الأوقات التي يقضيها العمال في الظلام إلى أن وصل الأمر خلال هذه المدة إلى تحول مريع في صفاتهم وأخلاقهم، أي باختصار أنها معكوسة للارتقاء، فهي التخلف والعدم، ثم القسم الثاني، وهو الطبقة الثرية المترفة أصحاب العمل، حيث أخذت سلالتها تزداد مع الزمن ترفا في نشأتها وتربيتها».
سليمان كشلاف يرى في رؤيته للرواية، بخلاف التقارير العلمية التي تزخر بها، أنها تضم قصة حب بين رحالة الزمن وبين «دنيا»، الفتاة التي أحبته ومضت معه إلى أبعد مدى، وتركت قومها في سبيله. كما أن هربرت، على رأي الكاتب، يحذرنا من المضي في طريق يصنع فجوة بين العمال وأصحاب العمل. ولكي لا ينتهي الجنس البشري النهاية نفسها التي انتهت بها رواية «آلة الزمن»، يجب أن تضمر تلك الفجوة التي تفصل بين الجنس البشري.
قصاص الفزع
في محطة أخرى، يتناول سليمان كشلاف النزعة التشاؤمية، حسب وصفه، في أدب «آدجار آلان بو»، مشيرا إلى أن قصص الفزع المبثوثة في أعماله تعد النواة الأولى للقصص البوليسية، والقصة التحليلية التي تعتمد على قوة الملاحظة وسعة التخيل، وهي تجمع بين الإثارة العقلية والتحليل النفسي البارع، لذلك فهو يعتبر قصاص الفزع بلا منازع.
ويواصل كشلاف: «قد يكون في القصص التي يكتبها (آدجار آلان بو) هجوم وحشي وقاس على الأعصاب، لكن جمال التركيب القصصي واللذة التي يخلفها ذكاء سياقها يخضعان القارئ لسحر الفن الذي يمزج بين هذا وذاك، فيجعل له طعما حلوا غريبا، فهو كاتب مرهف الأحاسيس واسع الخيال. كما أن قصصه لا يكتبها بمداد، بل بدم قلبه، حيث تصور قصة (سقوط بيت آثر) الضعف الذي يصيب الروح والخيال، ونرى حقيقة الطبيعة البشرية في قصة (اليونورا)، وتخبرنا قصة (موعدنا غدا) عن معنى الوفاء والتضحية، وتحكي قصة (الصورة) عن أصالة الفنان وقوة الإيحاء».
– للاطلاع على العدد «500» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا
وينتقل كشلاف إلى عالم الروائي عبدالحميد جودة السحار في عمله الروائي «جسر الشيطان»، الذي يحاول فيه تصوير العلاقة بين الشرق والغرب، حيث يمثل الشاب علي، الذي ذهب إلى ألمانيا في عمل يخص الشركة التي يعمل بها، والفتاة آني، التي تعرف عليها في أحد الملاهي حيث تعمل، وهنا تنشأ صداقة داخلها قلق الفارق بين شخصية علي الشرقية وعالم آني الممثل لانحلال الغرب ومجونه.
لكن علي يحاول إصلاح آني بحديثه عن الإيمان، وكيف أن الله معنا، ويستجيب لدعواتنا، بينما يقابل ذلك إلحاد من جهتها، فهي دائما ما تسير في الظلمات وتتمرغ في الطين، وهي لا تعرف من أين جاءت ولا إلى أين تسير، وهنا يسعى جودة السحار إلى المقارنة بين روحانيات الشرق ومادية الغرب، بين منطق الحكمة والإيمان وعالم التمزق على الرغم من الفارق الحضاري.
حلول جبانة
تحت هذا العنوان، تناول الناقد سليمان كشلاف المجموعة القصصية «صخب الموتى» للروائي الراحل خليفة حسين مصطفى، مشيرا إلى أن النغمة التي يعرضها في أكثر من بُعد هي «الحب»، بمعنى آخر العلاقة بين الرجل والمرأة في إطار من الشرعية التي يضفيها المجتمع على هذه العلاقة، ومحاولته الإجابة عن سؤال كيف يستطيع الإنسان أن يعيش حياة زوجية سعيدة يصل إليها عن طريق علاقة شريفة بين شاب وفتاة.
لذلك، كما يقول كشلاف، إن الكاتب يعطينا أكثر من مقياس لأكثر من وجه للصورة، سواء عن طريق الأسلوب التقليدي في الخطبة، كما في قصة «ليلة واحدة» أو من طرف المرأة في قصة «يد وظهر»، أو عن طريق أكثر تطورا من الناحية الاجتماعية، حيث لا نجد إلا اليأس والقتل والجنون، سواء من طرف الرجل في قصة «وحده كان بلا رأس» أو من طرف المرأة في قصة «حيث تسقط الظلال».
ويرى كشلاف أن النهايات المأساوية ليست إلا حلا واحدا تجاه أن يحدد الإنسان موقفا من المشكلة، وهنا لم تكن لديه حلول، فاكتفى بموقف جبان، بحسب وصف كشلاف، وهو الهروب من اتخاذ موقف قد يمثل رأيا مختلفا من الممكن أن يغير مسار العلاقات التي يبحث القصاص عن نقائها.
وإلى عالم الشاعر علي الرقيعي، وعبر ديوانه «أشواق صغيرة»، يلامس سليمان كشلاف البُعد الوطني في قصائده المتشكلة على أسس ثلاثة رئيسية، أولها مسؤوليته كمثقف تجاه الحرف، ثم مسؤوليته كمواطن تجاه ما حدث ويحدث داخل ليبيا، والثالثة مسؤوليته كثائر حرفته الكتابة في الدعوة إلى التغيير.
ويظهر كشلاف أن المعرفة هي الفهم الصحيح لوظيفة الكلمة عند الرقيعي، ثم بُعد الفهم يكون رد الفعل لهذا الفهم: «يا أبي مذ صرت أفهم روعة الشعر الذي ينبض من أعماق ملهم / أزهرت أعماقي الجدباء واهتز فؤادي».
وفي تتابع لجمل القصائد، تتجلى أبعاد الفهم الجديد للحياة لدى الشاعر، حيث تتشكل أنشودة الحب والثورة من ثلاث صور تضمها لوحة واحدة (التشاؤم واليأس – الإصرار والتحفز – الدعوة للثورة وانتظار الفارس المجهول): «أحن إليك وفي خاطري ألف رؤيا / سأسردها مرة في الليالي عليك / إذا ما رجعت إليك».