اللسان المشقوق

العنوان أعلاه، وصف أورده الكاتب والناقد المغربي المرموق عبدالفتاح كيليطو في كنابه المعنون: «أتكلم اللغات جميعاً ولكن بالعربية». والوصف حسب قوله: «عبارة تدل في لهجة الهنود الحمر على الكذب والنفاق وازدواجية اللسان». ويوضح، أنهم يقصدون بذلك الرجل الأبيض: «للوجه الشاحب لسانٌ مفلوق».
وصف اللسان بالمفلوق، وعلاقة فلقه بالكذب والنفاق وازدواجيته أثار اهتمامي. وفي الوقت ذاته أحالني مباشرة على وضعيتنا المتأزمة عربياً وليبيّاً: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً ودينياً….الخ. وهي، في آراء كثيرين، وضعية تنتج بشراً بألسنة مفلوقة.
أستمع إلى من نطلق عليهم ولاة الأمور في أحاديثهم وخطبهم. وحاول الإنصات لما يدور من نقاشات وتحليلات في وسائل الإعلام على اختلافها ومواقع التواصل الاجتماعي في الإنترنت. أو تجول في الأسواق الشعبية مصغياً إلى ما يدور من أحاديث بين الباعة والمشترين. أو اجلس في مقهى و«اكسر وذنك» لما يدور من حديث في المنضدة المجاورة. ولن أنصحك بزيارة المدارس والجامعات فترة الامتحانات!!
لو كنتَ منصفاً لما ترددتَ في وصف كل ما عاينت من عيّنات أعلاه بألسنة مفلوقة. تخيل ملايين البشر ينامون ويصحون، يمشون في الشوارع ويتسوقون في الأسواق وهم بألسنة مفلوقة، من دون أن يعوا ويدركوا ذلك. أي أنهم بشر بألسنة لا تتوقف على النفاق والرياء والكذب. الرؤساء، ورؤساء الحكومات يكذبون حتى تضطر إلى الالتفات بوجهك خجلاً لهم وليس منهم. الوزراء يكذبون وكأنهم آلات صمِّمت لإنتاج الكذب. رجال الدين على اختلافهم يكذبون. والغش ديدن الباعة في الأسواق، والتجار في المحلات.
نحن إذن نعيش في عالم يموج بذوي الألسنة المفلوقة. وبالتأكيد، أنت لن تكون من دونهم الوحيد بلسان غير مفلوق! إذ لا نجاة لأحد، في عالم مبني على طبقات تكدست عبر التاريخ من الكذب والرياء وازدواجية اللسان. فأين المهرب؟ وكيف السبيل إلى العيش بلسان غير مفلوق؟
الألسنة المفلوقة ليست حكراً على شعب دون آخر أو أمة دون أخرى. فهي تمتد وتنتشر لتشمل كل أمم وشعوب الأرض. الفرق بين الأمم والشعوب في انتشار وارتفاع نسبة الكذب والرياء غير متساوية. إذ لا تخلو أمة أو شعب على الأرض من ذوي الألسنة المفلوقة. ولكن النسب تختلف.
هناك أمم بنسب متدنية من ذوي الألسنة المفلوقة، وأخرى بنسب متوسطة، وأخرى بنسب عالية وملحوظة. ولدى المقارنة بينها تبرز شعوب بحظ وافر من الأخلاق والنبل، وتبرز أخرى بمستوى متدنٍ.
في ليبيا، على سبيل المثال لا الحصر، تكفل أربعون عاماً من حكم الاستبداد والفوضى وانعدام حكم القانون وانتشار الفساد إلى إحداث زلزلة في منظومة القيم الأخلاقية والدينية. وتكفل ما جاء بعدها بالقضاء المبرم على تلك المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والدينية، حتى أضحى الفساد ثقافة سائدة. ونهب المال العام غنيمة لمن استطاع إليه سبيلا، والخطف والحرابة والقتل مفردات بارزة في معجم الحياة اليومية. وكل ذلك يفضي إلى حقيقة لا مفر من الاعتراف بها. وهي أننا تحولنا إلى شعب بألسنة مفلوقة. والقلة النادرة التي نأى أصحابها بأنفسهم عن السقوط في تلك الهاوية لا يعتد بهم، كونهم أضحوا أغراباً، يعيشون على الهامش.
إذا حدث وقرأت هذه المقالة، وخطر في بالك التأكد من حالة لسانك، وهرعت للوقوف أمام أول مرآة تقابلك. فمن المحتمل جداً أن تطالعك في المرآة صورة لسان عادي، لا أثر به لفلق. ومن المحتمل كذلك أن تشعر بارتياح لتلك النتيجة. ولكن يوصى أن تجعل ارتياحك بمقدار حتى لا تنسى حقيقة أن المرايا تعكس صور ما يظهر أمامها من أشياء أو أشخاص. ولحسن حظنا جميعاً، أنه ليس بمستطاعها النفاذ إلى أبعد من ذلك!