إطلالة على الماضي

إطلالة على الماضي

«الذين يتحدثون عن التفكك والانقسام إما أعداء للثورة الجزائرية وإما ضحايا للوهم».
الرئيس بن بلة
عشية يوم 19 يونيو 1965

أجل، لقد حدث ذلك كله في تفاصيل دهاليز التاريخ، وأجل أيضا.. الصور تتشابه كثيرا وإن اختلفت إطاراتها، سواء كانت من الحديد أو الخشب. وأجل مرة أخرى، فإن الرجوع إلى الوراء يكون أحيانا لازما وضروريا.

منذ قرنين كاملين من الأعوام، في الرابع عشر من يونيو 1830، قدم الاحتلال الفرنسي إلى الجزائر دفعة واحدة. كانت ضربة المنشة الشهيرة سببا لهذا القدوم. تواصل وتمدد، ولم ينقطع إلى العام 1962. وقائع من سنوات الجمر والمقاومة والتضحيات في كل الأماكن من تلك الجزائر الواسعة. كان أمر الدفاع عن الحرية يتلازم مع الكرامة والتنفس والعيش، مثل بقية البشر. كانت سطوة وجبروت الغرب تتوسع وتتقاسم المناطق. ظفر بالغنائم والمكاسب في أفريقيا وآسيا. هولندا وبلجيكا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. نهضت هنا شرارات اللهب والنار وقصص الثورات.. ولم تتوقف!

كان لفرنسا تاريخ من المجد تعتز وتزهو به. سقوط الباستيل. انتشار المقاصل. رفض تناول الجاتوه. المفكرون.. روسو وفولتير ودعوات المساواة والإخاء ورومانسية هيجو. صيحات التمرد والرفض، ثم سيتلاحق التاريخ لديها، ليصبح سمة بارزة وواضحة على وجه الخصوص في القرن العشرين حين تكفل فلاسفتها وكتابها بالدفاع عن قضايا الإنسان.. أراغون وكامو وسارتر وسيمون دو بوفوار، وغيرهم. هذا التاريخ توارى خلف أبعاد من العتمة شديدة السواد. العنصرية والمظالم والعسف والتعذيب والقهر لشعوب تصر على الحياة النبيلة.

في الرابع عشر من يونيو 1940 ذاقت فرنسا مرارة الذل. هزمتها ألمانيا، وعبرت جيوشها من تحت قوس النصر وبرج إيفل في باريس، وشعر ديجول ومن معه بالخيبة والهوان، وظلت حكومة فيشي من عناوين الاستسلام والعار، الذي تواصل مع العار في الجزائر. ظل مثل الطاعون يتسرب في جبالها وريفها ومدنها. عار فرنسا في الجزائر عبر النظرة إلى الوراء كان عارا لا ينافسه شيء آخر.

دام الاحتلال، ورزحت تحته الجزائر، ثم نهضت المقاومة بدورها التاريخي العظيم في وجه خطوط النيران وأشكال العدوان. عانت البلاد المستوطنين والمعمرين الذين تفننوا في محاولات محو هوية الجزائر، وجعلها فرنسية خالصة مثل باريس أو بيزانسون.. تقرأ الفيغارو وتأكل الكرواسون مع قهوة الصباح، وتتكلم بلغتها بلا انقطاع. كانت أيام الاحتلال كئيبة ومظلمة مثل سواد العار. لكن المقاومة، التي انطلقت في الأول من نوفمبر 1954، ظلت صورة لامعة مثل الذهب، لا تصدأ أو ينالها العطب. كانت بالفعل ظاهرة حية، وأسطورة لتفاصيل النضال.

ومثل حركات التاريخ الأخرى، تعرضت أيام المقاومة إلى انكسارات مريرة، اختفت وراء صدفة الواقع الذي يراه الآخرون. كان في خلف ذلك الواقع المزيد من الصراعات والتصفيات والأزمات. رياح هبت عنيفة، وقسمت ظهر الأشقاء. أمثلة كثيرة على الاغتيالات والإقصاء. بعضها طال رموزا تاريخية عديدة.. رمضان عبان.. محمد خيضر، وغيرهم.

صورة هذا الوراء تبدو مخيفة في أغلبها. تحررت الجزائر صيف 1962. اندلعت انشقاقات بين الحكومة المؤقتة والجبهة الوطنية وجيش التحرير. البرلمان الليبي في طرابلس شهد الكثير من هذا الصراع المحزن. المكابرة والمعاندة بين أخوة النضال ورفاق السلاح.

تقاطعت الطرق وضاعت السبل والمنارات المتوهجة في الليل. ظهرت صيحات للفتنة والاقتتال الأهلي، ونهض صوت العقل يهتف «سبع سنوات بركة». يزي من هذا الذي يحدث. ورثت الثورة صعوبات ومأزق. تركها الفرنسيون وظل وجودهم باقيا في بعض القواعد العسكرية.. في عنابة وغيرها، وكذا بقايا الجيش السري والحركيين وضباط فرنسا من المحليين والمعمرين وكل المشاكل.

لم ترث إدارة. كل شيء كان فرنسيا في اللغة والتعامل والوسائل. وكان لا بد من العبور فوق المياه العكرة التي تملأ المستنقعات. نهضت الجزائر من الغبار والرماد، وثمة أشياء تعاني كمدا في الصدور. وكان أغلب الجزائريين عانوا الدم الذي يقود إلى مزيد من الدماء. جربوا الموت. طالهم التذبيح. كان الفرنسيون اعتبروهم وسط أرضهم غير مواطنين في الأصل. وظل الدم يفور في الصدور. الطبيعة الجزائرية بحكم الظروف في ذلك الوراء البعيد صعبة وقاسية ولا تهدأ بسهولة.

وهنا برز ولاح الصراع الخطير بين الثورة والدولة، ثم الدولة والجيش. كان هناك ثوار في الداخل دفعوا الثمن غاليا في الجبال وفي القصبة وغيرها، وثوار في الخارج يدافعون عن الثورة سياسيا ومعنويا، وكان ثمة جيش في الداخل وآخر في الخارج عند الحدود مع تونس، وهناك مع المغرب. وصراع تجدد عشية الاستقلال، لكنه ظل تحت المياه، وكان لا بد من أن تنشأ الحساسيات، وتزداد الصراعات، وتتكون المجموعات وأصحاب المصالح.

تقاطعت الطرق والجسور. عناد يستل عنادا مثله. الحزب والجيش والدولة ومعارك الداخل.. التسيير الذاتي وطرد المعمرين والنهوض بالتعريب. مشاكل الحدود ومعاركها مع المغرب في أكتوبر 1963. اتهامات لبن بلة، رئيس الدولة والحزب ووزير الداخلية والإعلام في آن واحد. اتهامات له بالتمهيد لتصفيات رفاق الأمس. الانفراد بالسلطة. ضاعت برامج الثورة بعد الاستقلال وتاهت في الدروب. الصَدفة اللامعة ظلت تخفي ما يدور وراء الأسطورة التي كانت مذهلة، والتضحيات وأيام النضال كادت تختفي أيضا من صفحات التاريخ.

فريق يواجه فريقا. مجموعة تتربص لمجموعة، ثم يسافر وزير الدفاع هواري بومدين في مهمة خارج الجزائر، ثم يعود ليجد طاهر الزبيري رئيسا للأركان دون علمه أو تنسيق معه، ثم يحاول بن بلة إبعاد عبد العزيز بوتفليقة.

شاب كان رسولا لجبهة التحرير لبن بلة ورفاقه في السجن بفرنسا. وهنا برز المثل الجزائري المعروف «العب على معبوص الأسد». ذلك مستحيل. بوتفليقة المحسوب على بومدين كانت قضيته قشة قصمت ظهر البعير في قصر الشعب. كانت الجبهة عقدت مؤتمرها الأول في 1964، ولم تكررها. اعتمدت ميثاقا أعده من وصفوا بـ«الماركسية»، وأشير إليه بأنه خلطة كوبية روسية صينية بعيدة عن هوية الدولة، والعروبة والإسلام. كان جيفارا قد حضر إلى الجزائر، وغادر قبل انعقاد المؤتمر.

الميثاق بذل فيه المثقف محمد حربي الكثير من الجهد.بومدين شعر بأن بن بلة رفيق الأمس أخذ في تقليم أجنحته، وإبعاد شخوص محسوبين عليه. وشعر أيضا بأنه يريد أن يستعملهم فوطة يمسح فيها أخطاءه أمام الآخرين.

لكن عشية الجمعة 18 يونيو 1965، والجزائر تستعد لمؤتمر أسيا وأفريقيا، غيرت اللحظة التي لم تقع صدفة في التاريخ. كان بن بلة يثق في بومدين، وكان بومدين لا يثق في بن بلة. حين دخل إلى فراشه تلك الليلة اقتحم حجرته الزبيري وآخرون. نقلوه في مدرعة إلى سجن بالصحراء. الزبيري بعد عامين سيهرب من الجزائر بتهمة الانقلاب على بومدين.

يوم السبت التاسع عشر من يونيو، حسم اللحظة لصالح بومدين وبوتفليقة. مرحلة أخرى سادها عسف واعتقال لرفاق بن بلة.. محمد حربي وعبد الرحمن الشريف، الذي كان ممثلا لجبهة التحرير في بنغازي أيام الثورة، وحسين زهوان وبشير حاج علي وغيرهم، وظهرت صفحات سوداء عن صور التعذيب والمهانة على يد رفاق الأمس. امتدادا لثقافة فرنسا في التعذيب والهوان. تشكلت لجنة عالمية للدفاع عن بن بلة. توقفت ولم تستمر.

الصراعات تقود إلى هلاك الدولة، وتحطم مشاريعها نحو المستقبل، وتؤدي إلى شعور كل المواطنين بالهزيمة والمرارة، وتدفع بالوراء إلى الحاضر من جديد!!