مرضعات الشر التي لا يمكن التخلص منها

يتبجح الكيان الصهيوني ومؤيدوه باغتيال ما سموه النخبة من القادة العسكريين وعلماء الذرة في إيران. وهذا الاغتيال يعد فعلا خرقاً أمنياً خطيراً، لكن بالمقابل وفي مثل هذه المواجهات ما ينتصر أخيراً هو الخرق الحضاري، لأنه لا يمكن لدولة لقيطة من عمر ترامب أن تخترق حضارة عريقة وممتدة في هذه الأرض لآلاف السنين، وهي ليست مثل حزب الله أو أي ذراع أخرى يمكن قطعها عبر اغتيال صفها الأول من قادتها فالفارق شاسع، وكما يُقال من ينظر إلى الشجرة لا يرى الغابة، والشجرة في هذه الحالة تفاصيل سياسية تعمينا عن رؤية غابة حضارية شاسعة مرت بأوقات أصعب من هذه بكثير وبقيت. ومهما كان الاختراق كبيراً والأسلحة المستخدمة فتاكة والهجوم أثناء المفاوضات غادرا، ومهما كانت السيطرة على الأجواء، لكن جميعها لا يمكن أن تتهدد وجود كيان وشعب متجذر في التاريخ والجغرافيا، أما الكيانات التي تشبه الطفح الجلدي فستعتبر أي حرب أو شجار أو حتى طفل يُولد مسألة وجودية بالنسبة لها لأنها تدرك أنها مثل الأعشاب المائية دون جذور، ولعل فيتنام التي احتلت سماؤها وأسقطت فوق شعبها ملايين الأطنان من القنابل دليل على ذلك، لأنها في النهاية انتصرت بحفاتها الذين قاتلوا بكل ما يملكون وفر الغزاة منها يسابقون الزمن، بعدما اعتقدوا أن السيطرة على الأجواء يمكن أن تنهي من هم فوق أرضهم، ويتكرر الأمر نفسه في أفغانستان بعد عشرين عاماً من السيطرة على سمائها من قبل حلف الناتو بزعامة أميركا، واستخدام كل الأسلحة الفتاكة، ثم على الهواء مباشرة رأينا الفرار المذل للقوات الأميركية وحلفائها من مطار كابول بعد أن قاتلهم أصحاب الأرض بأسلحة متوسطة طيلة عقدين لأنهم أصحاب أرض وسلالة حضارة بغض النظر عن رأينا في أيديولوجية طالبان. ولعل ما حدث في كاليفورنيا من خروج غاضب لسكان أميركا الشمالية الأصليين يرفعون علم المكسيك في شوارع لوس أنجلوس يخبرنا أن أصحاب الأرض الأصليين ما زالوا موجودين، يمثلون سلالة حضارة ممتدة لآلاف السنين في أرض الأميركيتين حتى وإن كان ترامب المهاجر جده وأمه منذ قرن واحد يعتبرهم مهاجرين غير شرعيين.
ورغم تحفظي الشخصي على طبيعتي النظامين الحاكمين في إيران وأفغانستان، إلا أني في هذا السياق أتحدث عن المآل الطبيعي لأي صراع بين أصحاب أرض يقاومون وبين غزاة مسعورين يعتقدون أن القوة حاسمة في هكذا صراعات، وأن الأمن قد يتوفر عبر استخدام هذه القوة أو وضع الشعوب تحت قباب حديدية محاطين بأسوار فوق أرض كلها مخابئ. في هذه الحالة لا نتحدث عن دولة إسلامية أو شيعية، لكن عن دولة عميقة متمثلة في الحضارة الفارسية، متجذرة في التاريخ والجغرافيا، وقد مرت بأهوال عديدة وصمدت وبقيت حتى الآن وستبقى للأبد، وبالمقابل هذا الكيان الغاصب يخبرنا التاريخ أنه عبر لأكثر من مرة هذه الأرض، لكنه كل مرة يختفي من التاريخ والجغرافيا في الشتات لحقب طويلة، وبالتالي لن يدرك العابر ماذا يعني التشبث بالأرض، وماذا تعني الهوية التي يخلقها التاريخ فوق أرض ثابتة، وهذا ما يجعله يضطر لاستخدام القباب الحديدية والأسوار والملاجئ تعويضا عن تحصينات الجذور الممتدة في الأرض، وهذا التشبث بالأرض والهوية ما يجعل أصحابها يملكون تكتيكاً خطيراً يهزم على مر التاريخ الغزاة مهما كانت قوتهم.
في فيلم تابعته من فترة في إحدى القنوات، كان موضوعه كوريا الشمالية، وحبكته التخطيط لاغتيال رئيسها عبر إعلامي أميركي استدعاه الرئيس الكوري الشمالي على غير العادة لأنه معجب ببرنامجه التلفزيوني، وفي حوار بين اثنين ممن يخططون لعملية الاغتيال، سأل الأول: ماذا لو قامت حرب بين أميركا وكوريا الشمالية؟ فقال الثاني: أميركا متفوقة عليها بكثير وستهزمها. وعلق الأول لكنهم يتفوقون علينا بتكتيك واحد وأساسي: حيث مقتل مليون منهم لا يعني لهم شيئاً ومقتل ألف أميركي مشكلة كبيرة. للوهلة الأولى يوحي هذا التعليق بكون أميركا تهتم بحياة مواطنيها بعكس ما يعتبرونه بلدانا متخلفة لا تشكل الحياة فيها قيمة، لكن في الواقع هذا الفارق التكتيكي طبيعي بين من يدافع عن أرضه وبين الغازي، بين المتجذر والطارئ، بين المقيم والعابر في كلمات عابرة، وهذا ما يمثله الصراع الحالي بين إيران وما تسمى إسرائيل، وهو ما يحدث أيضا في غزة حيث عشرات من الرهائن والجثث تشكل مشكلة بينما عشرات الألوف من الشهداء يزيدون من تشبث الفلسطينيين بأرضهم، ويأتون في سياق الثمن الذي تستحقه الأرض ويستحقه التاريخ وتستحقه الهوية التي لا معنى لها دون أرض متجذرة فيها. وهذا الفارق التكتيكي هو ما نراه الآن في مقارنة بين الإيرانيين وهم يخرجون إلى الميادين والشوارع تحت القصف هاتفين بحياة حضارتهم، وبين الإسرائيليين وهم يركضون مذعورين إلى جحورهم تحت الأرض.
السؤال المزعج أخلاقياً هو: لماذا يتلقى هذا الكيان الشرير هذا الدعم غير المشروط من قِبل الدول نفسها التي تحالفت ضد النازية، رغم أن الكيان الصهيوني أكثر عنصرية وقذارة من النازية، وما فعله ويفعله في غزة يفوق بكثير أهوال الهولوكوست لأن الدول العظمى والمتبجحة بحقوق الإنسان تشارك فيه أو تبقى محايدة؟ ومن جانب آخر لماذا إيران وحدها في مواجهة كل هذه القوى رغم انتمائها إلى عالم إسلامي، ورغم تحالفها مع قوى مهمة معادية للغرب، ورغم أنها تحارب أنكى الشرور فوق الأرض؟ يبدو أن الميديا الموجهة والمسيطر عليها عالمياً من لوبيات صهيونية قد نجحت خلال العقود الماضية في تمشيط ما تبقى من مشاعر تفرق بين الخير والشر وبين صاحب الحق والظالم، وأن توجه البوصلة صوب عدو آخر غير العدو الصهيوني، أعتُبِر العدو الأول في المنطقة (وهو تحول جذري بذل فيه إعلام الكيان جهدا كبيرا ويبدو أنه ينجح، وهو تحول لن ننكر دور إيران فيه بعد أن حاولت تصدير ثورتها واستفزت عديد الدول في محيطها) غير أن ما يفعله هذا الكيان؛ الذي يعد ذراع تلك القوى الاستعمارية السابقة، في المنطقة من ضرب في كل مكان يشاء وتوسع داخل فلسطين وخارجها وحرب إبادة، يؤكد أنه الشر الأعظم فوق الأرض، وأن كيانات أخرى ودولاً أخرى غيرت بوصلة العداء، ستكون أهدافا مستقبلية لغزواته بحجة أو بغير حجة، ومتى كان الشر يحتاج إلى حجة كي يتوسع وينتشر ويبيد.
حين يقول نتنياهو القادم من الشتات دون ذاكرة وطنية: «الأمر الآن بين أيدي الشعب الإيراني ليثور» فإنه لا يفهم الحد الأدنى من مسألة الانتماء التي ذكرتها والتي تتكون عبر حقب طويلة من الزمن وليس في سبعة عقود، لأن الإيرانيين في هذه الحالة ومهما كانوا متذمرين من النظام لا يمكن إلا أن يكونوا جسدا واحدا في مواجهة الغزاة، وهو الأمر نفسه الذي جعل طالبان تنتصر على أميركا وحلفائها بواسطة حاضنتها الشعبية الواسعة، رغم تحفظات قطاع واسع على حركة طالبان، لكن ما يقوله التاريخ في مثل هذه الحالات إن جحيم أرضنا الحرة خير من جنة الغزاة، وإن نرجسية الشعوب وكبرياءها واعتزازها بهويتها لا يمكن أن يفضي سوى إلى هذا الخيار، وهو ما لا يفهمه نتنياهو الذي زرعت دولته المزعومة في هذه المنطقة الحساسة لتكون رأس حربة لتلك القوى المؤسسة لها، أو كما سماها الباحث عبدالوهاب المسيري «الدولة الوظيفية» ومهمتها في هذه الفترة هي تنفيذ ما سماه الساسة الأمريكان «الشرق الأوسط الجديد» وبالتالي فالكيان الصهيوني مجرد رأس فأس حفار يحركه كاتربيلر ضخم متمثل بتلك القوى الكبرى، والتي من دونها لا وجود لشيء اسمه إسرائيل، حيث ما زالت مشيمتها مرتبطة بهذا الرحم الغربي الذي أنجبها سفاحا في هذه البقعة، واستمروا يرضعون هذه اللقيطة التي لن تعرف الفطام أبداً، لأن الفطام يعني نهايتها.
تعالِجُنا نفسياً هذه الحرائق وهذا الدمار الذي نراه في مدن هذا الكيان الشرير أثناء ارتكابه لجريمة إبادة، وهذا الذعر الذي يجتاحه رغم قبته الحديدية والدفاع عنه من الدول الغربية القوية، ومهما كانت نتائج حربه مع إيران فسيظل وسواس الخوف الوجودي يلاحقه، وعلى كل مستوطن غاصب أن يدرك أنه لن ينعم بالأمان في أرض ليست من حقه مهما تذرع بالخرافات التي لا تفيد أمام حقائق التاريخ والجغرافيا والهويات الحضارية المتجذرة، وأن موازين القوى ستتغير يوماً ما مثلما تغيرت عبر الزمن الغابر، وهذا الهلع ما يجعل نتنياهو يقول إن هذه الحرب حرب وجودية، أو أن إيران تشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، غير أنه في الواقع لا تمثل إيران ولا المقاومة الفلسطينية ولا غيرها تهديداً وجودياً، لأن إسرائيل المصطنعة ليس لها أصل وجودي من الأساس، وإن كان لها وجود فما يهدده هو هذا السلوك الشرير الذي يسلكه المتطرفون من هذه الديانة وعبر التاريخ، والذي تسبب في حاجة هذا العرق لقانون يحميه من الكراهية في سابقة لم تحدث لأي عرق أو مذهب آخر. وأن ما يهدد وجود هذا الكيان حتمية تاريخية تقول إن الاحتلال مهما توحش ظلامٌ مصيره أن ينجلي، وحتمية وجودية تقول إن الهوية جذور ممتدة عميقاً في الأرض وليست جهاز استخبارات أو سيطرة معدن على السماء، وحتمية أخلاقية تقول إن «ما بني على باطل هو بالضرورة باطل».