أفضل من لا شيء

«خير من بلاش» عبارة تتردد على ألسنة الكثير من أهلنا، وأظن أن قائلها يعني بها أن تحقيق قدر ضئيل مما يأمل في الحصول عليه أفضل من اللا شيء.
هذا هو المعنى الذي يبدو للوهلة الأولى والذي يدخل تحت بند الزهد والقناعة بما هو موجود، أي أنها تشير إلى قبول الوضع الحالي دون الحاجة الملحة للتسارع نحو تحسين الحال.
و “خير من بلاش ” هذه تترافق مع الكثير من السرديات التى تعلي من شأن القناعة مثل «القناعة كنز لا يفنى» وما إلى ذلك مما يدفع الإنسان إلى الرضا بالواقع.
انا مؤمن بأن هناك إيجابيات للقناعة تشمل الراحة النفسية، والحصول على سلام داخلي مؤقت، ولكن سلبياتها قد تتضمن الرفض للتحسين الشخصي أو المهني، وقد تؤدي إلى الاستقرار الهش وفقدان بعض الفرص التي يمكن أن تحسن الحياة.
وبتدبر العبارة بعيداً عن استنتاج أن المعنى يتعلق بالزهد والقناعة، يلوح لي معنى آخر، لعله يكون السبب الحقيقي لانتشار تلك العبارة، وهو أن سقف الآمال والطموح لدى قائل تلك العبارة قد صار في حده الأدنى وأن – ما تحقق أو ما هو موجود ليس بعده إلا العدم – وبالتالي تأتي عبارة «خير من بلاش» تسرية للنفس وإذعاناً وخضوعاً للواقع البائس، والقبول بالحد الأدنى سواء كان من الخدمات أو مستوى المعيشة بشكل عام، أي أنه قول يحمل في باطنه شعوراً دفيناً بالعجز والغبن.
معلوم أن مستوى المعيشة يحتوي على عناصر عدة، مثل الدخل، جودة وتوفر الوظائف، جودة المساكن ومستوى القدرة على تحمل تكاليفها، والقدرة على شراء الضروريات وتوفر أو مجانية الوصول لرعاية صحية جيدة، جودة وتوفر التعليم، ومعقولية تكلفة الخدمات، والثبات الاقتصادي والسياسي، الحرية السياسية والدينية .. وخلاصة القول أن المستوى المعيشي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجودة الحياة.
هناك مجتمعات تمكن للناس مستوى معيشة مرتفعاً أو مقبولا، حيث العيش حياة مريحة وصحية مع القدرة على الوصول إلى الموارد التي تسمح بعيش حياة مُرضية فى حدها المقبول.. فى تلك المجتمعات تختفي وتتوارى فيها مقولة «خير من بلاش» بل يطمحون للمزيد من تحسين معيشتهم ، بينما على الناحية الأخرى حيث مستوى المعيشة المنخفض، فإن الناس أكثر عرضة للفقر وسوء الصحة والفرص المحدودة ويقبلون بالفتات الذي تجود به السلطة القائمة، وهذا بدوره ينعكس على الاقتصاد، بحيث ينخفض مستوى المعيشة مترافقا مع انخفاض الإنتاجية وزيادة التفاوت الطبقي، وما ينتج عن ذلك من اضطرابات تخلخل كيان المجتمع.
لاحظت وفي نفس سياق عبارة «خير من بلاش» عبارة أخرى أظنها تقترب من المعنى نفسه وهي عبارة «العمش خير من العمى» .. والمعنى الظاهر يبدو أنه القبول بأمر التهاب العين المفضي إلى إفراز ذلك «العمش» باعتبار ذلك أفضل من العمى .. فيما يبدو أيضا إيماناً بأنه ليس بالإمكان الوصول إلى الوضع الأمثل والأفضل، وقناعة بأن القبول بالضرر الأقل أفضل من الضرر الأكبر.
يا ترى هل هذا المعنى هو المقصود بذلك القول؛ أم الأمر في حقيقته ليس إلا كما أسلفت بأنه قول نتقبل به الفشل والعجز عن الوصول للحل الممكن والمأمول، بحيث تأتي «خير من بلاش» وما على نهجها، تسليماً للأمر الواقع، وإعطاء الحجة للتخاذل ولتبرير عدم القيام بما هو ضروري لتغيير الواقع لما هو أفضل.
من المؤكد لدي أن المبررات كثيرة في مجتمعات الاستبداد حيث تغيب محاولة المطالبة بالحقوق، ويسود الخوف، إضافة إلى تأثر مستوى الطموح ونظرة التوجس والقلق من المستقبل مما ينعكس على مستوى الطموح فتحد منه وتجعله في أضيق الحدود نظراً لعدم إمكانية تحقيق هذا الطموح، فيلجأ الشخص للموقف السلبي والانطواء على الذات، مردداً في السر والعلن «خير من بلاش» بدلا من مواجهة الصعوبات الحالية والمستقبلية.