الشيخ الذي أعدّ جسر المعرفة.. فاجتازت القافلة نهرًا آخر.

الشيخ الذي أعدّ جسر المعرفة.. فاجتازت القافلة نهرًا آخر.

هشام محمد الجاسر- باحث في المجال النفسي والثقافي

في لحظةٍ مؤثرةٍ بين الأذان والإقامة، لمح المؤذن رجلاً مسنًّا يجلس بعد أداء سنة المسجد وقد اغرورقت عيناه بالدموع. اقترب منه يُهوِّن عليه، وسأله عن سرّ بكائه الملحّ، فراح الشيخ يروي بحسرةٍ قصّته: “مشكلتي يا بنيّ أن أبنائي لا يُصغون إلى نصائحي، ولا يريدون الانتفاع بخبرتي؛ بل يظنون أنهم أدرى وأعلم مني. أشعر أن سنيني الطويلة ذهبت هباءً”.

ثم أضاف متنهدًا: “كنت أحلم، وقد بلغت من العمر عتيًّا، أن أكون كما كان أبي وجدّي؛ قطبَ الأسرة وحكيمَها الذي يتحلّق حوله الأبناء والأحفاد ليستقوا من علمه وحكمته. لكنني فوجئت بأن دوري التوجيهي تلاشى، وأن أبنائي باتوا يرون تجربتي بلا قيمة تُذكر”.

تعكس هذه الحكاية مشهدًا إنسانيًّا بالغ العمق: فجوةً معرفيّةً وقيميّةً تفصل جيل الآباء والأجداد عن جيل الأبناء والأحفاد. يشعر الكبار بأنّ رصيد حكمتهم يُهمل، بينما يرى الشباب تلك النصائح “منتهية الصلاحية” في ظلّ تحدياتهم الراهنة المتسارعة.

وحده العقد الأخير بطفراته الاجتماعية والتكنولوجية وثورة الذكاء الاصطناعي كافٍ ليوضح مدى التحول. هذه الهوّة قد تضيق في الضواحي والقرى حيث تتشابه العادات وأنماط العيش، لكنها تتسع في المدن التي لا يهدأ فيها إيقاع التغيير، فيثقل وقعها على قلوب الشيوخ.

باعتقادي، إشراك الأجيال المختلفة في التعلم المتبادل والعمل التطوعي واللقاءات الثقافية والوطنية يثمر عن فهم متبادل وتواصل أعمق. كما أنه يقلل من عُزلة كبار السن ويمنحهم شعورًا بأن لديهم دورًا مستمرًا، ويمنح الشباب خبرةً وحكمةً لا تُقدّر بثمن.

لقد استطاع بعض كبار السن تجاوز هذه الفجوة من خلال التعلم المستمر والانخراط المجتمعي. إن انفتاح كبار السن على معطيات العصر – من خلال حضور الفعاليات الثقافية، والتطوع في المبادرات الشبابية، وتعلّم مهارات التكنولوجيا الحديثة – جعلهم أقرب لفهم الجيل الجديد والتفاعل الإيجابي معه والإحساس بالأهمية والدور الفاعل. فقد أثبتت التجارب أن تواصل الشباب مع كبار السن يمنحهم إرشادًا واستقرارًا معنويًا هم بأمسّ الحاجة إليه، وفي الوقت نفسه يتعلّم الكبار من الشباب أدوات العصر ولغته ويفهمون طبيعة تحدياته.

لا بد لنا من الإقرار بأن عالم الغد لن يشبه عالم الأمس، وأن التعلم مدى الحياة لم يعد خيارًا بل ضرورة تمليها سرعة التطورات. تشير إحدى دراسات منتدى الاقتصاد العالمي إلى أن 65% من أطفال اليوم سيعملون في وظائف غير موجودة حاليًا، وهذا مؤشر واضح على حجم التحول القادم الذي قد يجعل بعض خبراتنا الماضية غير ذات صلة إن لم نواكب.

إن التجارب التي عايشناها عبر السنين ثمينة بلا شك، لكنها قد تتبدّد في مهب الريح إذا لم نبقَ واعين لما يحدث حولنا ونطوّر أنفسنا باستمرار.

ولعلّي أتذكر في هذا السياق مقولة تكررت في منتديات الأعمال العالمية مفادها أن الخصلة الأهم التي يحتاجها الفرد ليعيش وينجح في عصرنا الحالي هي أن يبقى دائم التعلم لأن المعرفة تتقدم بوتيرة هائلة تجعل من يجمد على معارفه يمسي متخلفًا عن الركب وقد يرى نفسه أن القافلة قد مرت من مكان آخر.

وممّا لا شكّ فيه أن الشيب وحده لا يصنع حكيمًا، كما أن التجاعيد ليست دليلًا على رجاحة العقل. ولعلّ أجرأ ما قيل في هذا الباب العبارة: “لا تأخذ نصيحةً لمجرّد أن قائلها كبير في السن؛ فالحمقى أيضًا يكبرون”.

هذا التذكير اللاذع يبيّن أن العمر لا يُطهّر الأفكار تلقائيًّا من السطحية أو السذاجة؛ فالجسور بين الأجيال تظلّ متينةً فقط بالتعلم المستمرّ، والحوار المنفتح، المقرون بالتواضع. وبهذه الروح تتحوّل الفجوة المؤلمة إلى فرصة لبناء فهمٍ وتآزر أعمق، ويبقى وهج الحكمة متقدًا جيلًا بعد جيل، لا تُطفئه رياح التغيير، بل تزيده توهّجًا.