الخمسون: انطلاق الرحلة نحو الاستقلال الذاتي

د. محمد العرب
رئيس مركز العرب للرصد والتحليل
الخمسون ليست رقماً… إنها مرآة..!
في عمر ما بعد الخمسين لا تعود الحياة سباقاً نحو الأمام، بل تأملاً في ما خلّفته الخطوات… واستعداداً لما لم يأتِ بعد، بوعيٍ أكثر صفاءً، وشجاعةٍ أقل صخباً.
هنا، تبدأ مرحلة جديدة لا يليق بها اللهاث، السرعة تصبح عبئاً، والأصدقاء يختصرون، والأيام لا تُعدّ بكثرتها بل بجودتها.
يصبح الصوت الداخلي أعلى من أي ضجيج خارجي، وتصبح الحكمة أكثر جاذبية من الذكاء، والسكينة أكثر إغواءً من الانتصار.
في الخمسين، تتغير العلاقة مع الوقت؛ تدرك أنه لم يكن عدواً ولا صديقاً… بل كان معلّماً.
كل لحظة كانت درساً تنكّر في هيئة امتحان، أو خسارة، أو ندم، أو فرصة فوّتها بعناد.
ومن بعد الخمسين، لا يعود الزمن خصماً، بل يصبح زميلاً هادئاً يجلس إلى جوارك، لا ليراقب سرعتك، بل ليتأكد أنك فهمت الدرس.
النجاحات لم تعد أوسمة، بل تجارب محايدة.
والإخفاقات لم تعد وصمة، بل أدلة على أنك عشت بما يكفي لتغامر، وأنك خسرت بما يكفي لتتعلّم.
الجروح لم تعد نواحاً… بل أصبحت وشماً غير مرئيٍّ على جلد الروح.
كل ندبة تحمل في طياتها حكاية، وكل حكاية دليل على أنك لم تكن هامشاً يا صديقي.
الذين تجاوزوا الخمسين لا يُقاسون بما يملكون، بل بما تجاوزوا.
في هذا العمر لا تبهرك الأضواء، بل تغريك الزوايا المعتمة، حيث الراحة من التّصنّع، والبُعد عن الجلبة، وسكينة مَن لا يحتاج أن يثبت شيئاً لأي أحد.
تتبدل الأولويات؛ لم تعد بحاجة لتصفيق… بل لمن يُصغي.
لم تعد تركض خلف الذين لا يرونك… بل تمشي نحو الذين لا يملّون منك.
لم تعد تبحث عن مكان لك في الصفوف الأولى، بل تصنع مقعداً خلفياً يليق بك، وتراقب المسرحية بعين الناقد، لا بعين المتفرّج.
في الخمسين، تبدأ فهمك الحقيقي للمعنى.
لم تكن الحياة صراعاً للفوز، بل تمريناً على البقاء نقياً.
لم تكن الإنجازات غايات، بل أدوات لتكبير داخلك وتصغير وهمك.
لم تكن العلاقات أعداداً… بل انعكاسات…!
كل من بقي في محيطك بعد هذا العمر، هو جزء منك… أو انعكاس لنسخة لم تَعُد ترغب بها.
أما الطموح… فلم يعد سباقاً نحو أعلى، بل غوصاً نحو أعمق.
أنت لا تتسلق الجبال… بل تحفر في صخورك الداخلية لتصل إلى ماء الحكمة، إلى النبع الذي انتظر طويلاً أن تصمت لتسمعه، وها قد وصلت.
بعد الخمسين، تتغير العلاقة مع الجسد؛
كل ألم هو رسالة، وكل تجاعيد الوجه ليست شيخوخة، بل توقيع على وثيقة (لقد عشت).
مَن لا يحب وجهه في الخمسين، لم يُصادقه بعد، ولم يعتذر له بما يكفي، ولم يُربّت عليه كما يجب.
في هذا العمر تتصالح مع نهايتك؛ لا خوف من الرحيل… بل احترام له.
مَن عاش نصف قرن، يعرف أن الرحيل ليس خسارة، بل اكتمال، ويعرف أن الفناء جزء من المعنى، وأن كل شيءٍ عابرٌ إلا الأثر.
ولهذا تبدأ في صناعة ما يُبقيك حيّاً بعد الغياب: فكرة نبيلة، ابتسامة صادقة، موقف لم تساوم فيه، يد امتدت دون مقابل.
الخمسون عمرُ الانعتاق؛ تنفك فيه القيود التي كنت تظنها أساور ذهب، وتتحرر من المقارنات، تتحرر من سؤال: “ماذا يظنون؟”، ومن الحاجة المرضية لأن تكون مثالياً..!
لأنك أصبحت تفهم أن الكمال لعبة مملة، وأن النقص هو مَن يجعلنا بشراً… ويمنحنا فرصة للتحسّن دون ادّعاء.
وفي هذا العمر، تبدأ بكتابة سطر جديد من المصير؛ سطر لا تمليه عليك الحياة، بل تمليه على الحياة.
فأنت لم تعد تسير في درب مرسوم… بل تمشي على خريطة تخطها قدماك، بالحذر، وبالإيمان، وبالتجربة…
لم تعد تابعاً للأمنيات… بل سيداً للقرارات.
أنت لم تُولد من جديد،
بل أصبحت أنت… كما يجب أن تكون.
مصيرك لم يكن هناك…
كان دائماً هنا، ينتظر أن تنضج بما يكفي لتراه…!