السعودية تطلق مبادرة “لا حج بدون تصريح” لتعزيز العدالة في التنظيم.

السعودية تطلق مبادرة “لا حج بدون تصريح” لتعزيز العدالة في التنظيم.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى بمكة سابقا

خص الله سبحانه وتعالى هذه البلاد الطاهرة بوجود أطهر البقاع فيها وهما الحرمان الشريفان مهوى أفئدة المسلمين ومقصد تطلعاتهم، فهي قلب العالم النابض فيها آخر الرسالات السماوية انتشرت في أصقاع المعمورة، فهي قلب العالم النابض، حتى أصبحت سيادتها ضمانا لكل من يحج بيت الله الحرام.

يقصد الحجاج أداء مناسك الحج منذ فجر التاريخ منذ آدم عليه السلام حج إلى مكة ومن بعده الأنبياء، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان في عسفان فقال هذا وادي مر به أخي هود، وأخي صالح قبل أن يقوم إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام ببناء الكعبة المشرفة، (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) يأتون من كل فج عميق استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) وشرف الله هذه البلاد حكومة وشعبا اختصهم بخدمة بيته العتيق ومسجد رسول الله وبقية الأماكن المقدسة تعده الدولة تشريفا إلهيا، مستشعرة عظم المسؤولية، هادفة إرضاء ربها، اهتمت بتيسير مناسك الحجاج منذ ان تطأ أقدامهم الأراضي السعودية إلى أن يغادروها، بل تكفلت برعايتهم في دولهم وتسهيل إجراءات رحلة الحج إلى السعودية.

اهتمام السعودية بالحج والحجاج جعل لها مكانة في قلب كل مسلم في أنحاء العالم لما تبذله من جهود عظيمة لرعاية الأماكن المقدسة، فأنفقت على تلك الأماكن المقدسة الغالي والنفيس، وتستنفر كل جهودها في موسم الحج لرعايتهم وأداء حجهم بكل يسر وطمأنينة.

قادت السعودية حملة لا حج بلا تصريح، بهدف تنظيم عملية الحج، وضمان سلامة وراحة الحجاج، ومنع الحج غير النظامي الذي لا تتوفر له وسائل وسبل الراحة التي تؤدي إلى مشاكل تنظيمية وأمنية وصحية تنعكس على امن وسلامة الحجاج، والتصريح وسيلة تنظيمية لتأمين السكن لتحديد موقع الحاج لتسهيل عملية إدارة الحشود تفاديا للزحام الذي يؤدي إلى اختناقات وحوادث، وضمان وجود مساكن حتى لا تتسبب الحرارة العالية في حدوث وفيات.

التصريح يوفر كافة الخدمات الأساسية للحجاج لضمان سلامتهم من خلال توفير بيئة منظمة وآمنة، ويمنع ظهور الحج غير النظامي الفوضوي الذي يتسبب في حدوث مشاكل صحية وأمنية، خصوصا وأن الحج الغير نظامي يتسبب في ظاهرة الافتراش في الطرقات والأرصفة التي تهدد سلامة سير الحج وسلامته، وتؤدي هذه الظاهرة إلى دهس المفترشين تحت الأقدام، وصولا لأعمال السرقة واللصوصية والتخفي عن أنظار رجال الأمن، وهي تزيد من الأعباء على رجال الأمن بدلا من تركيز تلك الجهود على خدمة الحجاج النظاميين.

هذه إحدى الظواهر الرئيسية التي عانت منها الدولة في الأعوام الماضية، فجاءت بحملة تمنع الحج غير النظامي لمنع حصول هذه الظاهرة، جعلها تصدر بطاقة نسك لتميز الحاج النظامي عن الحاج غير النظامي في المشاعر المقدسة، حيث تعد البطاقة بمثابة تطبيق متكامل تتيح لحاملها تسجيل بياناته الشخصية والصحية والمعلومات المهمة.

بل إن الحج النظامي يمنع الشركات الوهمية من سلب حقوق الحجاج، ليس هذا فحسب بل إن الحجاج الغير نظاميين يقومون بمغامرة خطيرة قد تؤدي إلى خسارة الشخص لنفسه أو للحجاج الآخرين بسبب عدم أخذه اللقاحات المطلوبة التي يأخذها الحجاج الذين لديهم تصريح للحج، لأن الدولة تعتمد لقاحات تمنع حدوث تفشيات مرضية في موسم كل حج.

لذلك تؤكد الدولة على سلامة الحج والحجاج وتيسير أداء مناسكهم ومنع كل ما يعكر صفو أداء مناسك الحجاج النظاميين، جعلها تتجه نحو تطبيق الأنظمة والتعليمات على المخالفين، وتمنع الحج الغير نظامي عبر فرض غرامات مالية والإبعاد للمقيمين، بل تفرض عقوبات باهظة على كل من يتورط في تنظيم الحج الغير نظامي.

خصوصا وأن حيز المشاعر محدودة فمشعر منى بشكل خاص مساحته لا تتجاوز 7.82 كيلو متر مربع، والمستغلة فعلا 4.8 كيلو متر مربع كيلو مترا، تأوي أكثر من 2 مليون حاج، بينما مشعر عرفة يبلغ 33 كيلو متر مربع، وصمم مشعر منى ليضم أكثر من 100 جسر ونفق لخدمة الحج بمواصفات تتفوق على أنظمة مدن، بنيت لخدمة موسما واحدا كل سنة.

ووفق الجدوى الاقتصادية فإن تكاليف الإنفاق عالية على الدولة،  لكن الإنفاق لم يكن من أجل أهداف اقتصادية بل دينية، خصوصا عند تشغيل قطار موسمي ينقل الحجاج يوميا أكثر من 350 ألف حاج بين عرفات ومزدلفة ومنى، فتكاليف بناء مثل هذا القطار ليعمل فقط عدد من الأيام ثم يتوقف، ويتم إسكان الحجاج في أكثر من 150 ألف خيمة ذكية في منى أيضا لعدة أيام، مع بنية صحية مؤقتة لعدة أيام، منها منشآت متنقلة وثابتة يصل عددها نحو 190 منشأة بكادر طبي يصل عدده أكثر من 32 ألف تجرى فيه عمليات قلب مفتوح مجانية للحجاج وجلسات غسيل كلى.

تنفق الدولة تكاليف عالية لا تغطيها رسوم الحج، بل تعتز الدولة وتتشرف بهذا التشريف، بل إن تكلفة توسعة الحرمين بلغت أكثر من200 مليار ريال إلى جانب اهتمام الدولة بتشغيل أنظمة إنذار مبكر لمنع التكدسات عبر كاميرات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وتقدم خدمات عبر اكثر من 25  تطبيق بالذكاء الاصطناعي لإرشاد الحجاج.

السعودية تعتبر ما تقدمه واجبا بل تعتز بما تقدمه لراحة الحجاج وهناك مؤسسات دولية أشادت بجهود السعودية على رأسها  الأمم المتحدة التي اعترفت أن السعودية تقدم نموذجا غير مسبوق في إدارة الحشود الدينية، خصوصا وأن السعودية تبني سنويا مدينة ذكية متنقلة للجاج ثم تفككها بالكامل دون فوضى أو عجز وتتحمل تكاليفها بالكامل لا يتحملها الحجاج، ووزارة الخارجية الأمريكية اعترفت في عام 2023 بأن السعودية تقدم أحد أكثر نماذج التنظيم أمانا وانضباطا في العالم.

الشعار الذي أطلقته وزارة الداخلية لا حج بلا تصريح لم يأت من فراغ، بل هو نابع من حاجة ملحة لتنظيم حركة الحجاج، وتفادي الزحام الشديد الذي يؤدي إلى حوادث، وبينت هيئة كبار العلماء أن الالتزام باستخراج التصريح للحج هو من طاعة ولي الأمر في المعروف نتيجة للأضرار الكبيرة والمخاطر المتعددة حال عدم الالتزام باستخراج التصريح، مما يؤثر على سلامة الحجاج وصحتهم، وأوضحت ان الحج بلا تصريح لا يقتصر الضرر المترتب عليه على الحاج نفسه وإنما يتعدى ضرره إلى غيره من الحجاج، خصوصا وأن الشريعة أتت بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.