ابدأ من النقطة التي يتجاهلها الآخرون: كيف تستثمر أول ساعتين من يومك بشكل فعّال؟

عبود بن علي آل زاحم
خبير تدريب وتطوير المواهب
عضو الجمعية السعودية للموارد البشرية
في عالمٍ سريع الإيقاع، يبدو أن الجميع يركض. نفتح أعيننا على تنبيهات الهاتف، ننتقل مباشرة إلى رسائل البريد، نغوص في محادثات العمل، وننسى شيئًا بالغ الأهمية: أن الساعتين الأوليين من يومك ليستا وقتًا عاديًا. بل هما وقتك الذهبي.
خلال هاتين الساعتين، يكون ذهنك في قمة صفائه، وقلبك لم يُثقل بعد بالضغوط، وجسدك لا يزال ممتلئًا بطاقةٍ متجددة. ما تفعله في هذا الوقت قد يحدد جودة يومك بأكمله. بل أكثر من ذلك، قد يحدد شكل حياتك. ولكن كيف يمكن إدارة هذا الوقت بذكاء؟ وما الذي يفعله الناجحون فعلًا في هذه الساعتين؟ دعونا نبدأ من الأمثلة.
الرئيس التنفيذي لشركة “تويتر” و”سكوير” سابقًا، جاك دورسي، كان يبدأ يومه بجلسة تأمل، ثم يخرج في جولة مشي صباحية قبل أن يفتح أي بريد إلكتروني. يقول إن هذا الطقس الصباحي يمنحه وضوحًا ذهنيًا لا يقدّر بثمن. أوبرا وينفري، واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا في الإعلام العالمي، اعتادت أن تكتب كل صباح ثلاث أشياء تشعر بالامتنان تجاهها قبل أن تبدأ أي اجتماع. لم يكن هذا رفاهية… بل استراتيجية واعية للتركيز على الإيجابي وتصفية الذهن.
وفي مجتمعاتنا الإسلامية، لا شيء ينظّم بداية اليوم ويمنحه بركته مثل المحافظة على صلاة الفجر؛ فمجرد الاستيقاظ لها ثم التهيؤ للصلاة يمنح جسدك إيقاظًا طبيعيًا، وروحك شحنة صفاء، ويُعطيك شعورًا بالإنجاز قبل أن يبدأ يوم الكثيرين. أما أذكار الصباح، فهي درع واقٍ للنفس، تهذّب الداخل، وتحفظك من كل سوء، وتضعك في حالة ذهنية متزنة تعينك على مواجهة ضغوط الحياة بثبات.
في المقابل، كثير من الناس يبدأون يومهم مباشرة بالرد على رسائل “واتساب”، أو فتح تويتر وإنستغرام، أو تفقد بريدهم الإلكتروني. هذه البداية تُدخلهم في دوامة من الانشغال اللحظي، وتسرق منهم قدرتهم على التحكم في سير يومهم. بدلًا من أن يكونوا قادة وقتهم، يصبحون رهائن للضجيج الرقمي.
قد لا تكون رئيس شركة عالمية، لكن وقتك الذهبي لا يقل أهمية عن وقتهم. بإمكانك أن تضع قاعدة بسيطة: لا تستقبل العالم قبل أن تستقبل نفسك. خصص 10 دقائق للكتابة. ليست كتابة أدبية، بل تدوين لأفكارك، أولوياتك، أو حتى مشاعرك. ابدأ بشرب الماء، لا القهوة. خذ خمس دقائق في الصمت، دون أن تلمس هاتفك. وإذا استطعت، مارس نشاطًا بدنيًا خفيفًا: تمارين التمدد، المشي، أو حتى ترتيب غرفتك. هذه الأفعال الصغيرة ليست مجرد طقوس، بل أدوات تعيد لك السيطرة على إيقاعك الداخلي.
هناك مفهوم في علم النفس الإداري يُعرف بـ”العمل العميق” (Deep Work)، ويعني تخصيص وقت خالٍ من المشتتات للتركيز على مهمة واحدة تُحدث فرقًا حقيقيًا. أول ساعتين من يومك هي الفرصة الذهبية لذلك. لا تضيّعهما في التحقق من جدول الاجتماعات أو ترتيب ملفات سطح المكتب. بل استثمرهما في كتابة عرض تقديمي مهم، أو تطوير فكرة جديدة، أو قراءة مادة تغذيك فكريًا. أحد المحامين الناجحين في نيويورك قال ذات مرة: “أول 90 دقيقة من يومي أخصصها للعمل على القضية التي تشغل بالي حقًا، قبل أن يسمح اليوم لبقية الأمور أن تشتتني.”
هل لديك هدف بعيد الأمد؟ مشروع مؤجل؟ مهارة تحاول إتقانها منذ شهور؟ هذا هو الوقت الأنسب له. لا تنتظر وقت الفراغ، ابدأ وقتك بأهم ما لديك. ومع الوقت، ستشعر بأنك لم تعد تلاحق يومك، بل هو من صار يطاوعك.
الخلاصة؟ أن الساعتين الأوليين من يومك ليستا مجرد فترة استيقاظ، بل فرصة لتأسيس يوم ناجح، وسلوك منتج، وحياة أكثر توازنًا. من يدير هذه الساعات بحكمة، لا يحتاج لأن يضيف ساعات إلى يومه… لأنه ببساطة، أضاف عمقًا ووعيًا وفعالية إلى ساعات يملكها أصلًا. كن من أولئك القلائل الذين يبدأون من الداخل، لا من الخارج. فالعظمة لا تصنع في الزحام، بل تبدأ من لحظات الصباح الأولى، حين تختار أن تبدأ حيث لا يبدأ الآخرون.