العبرية: اللغة الغائبة… كشف الأسطورة وإعادة إحياء الواقع

العبرية: اللغة الغائبة… كشف الأسطورة وإعادة إحياء الواقع

بندر بن عبدالله بن محمد

ذكرت بعض ذلك في كتابي (البحث عن الحقيقة)، اعتُقِد طويلًا أن العبرية هي اللغة الأصلية لبني إسرائيل، وأنها اللسان الذي تكلّم به الأنبياء من إبراهيم إلى موسى إلى عيسى عليهم السلام. وقد ترسّخ هذا التصور حتى في الأوساط الأكاديمية والدينية، لكنه لا يصمد أمام التحقيق التاريخي واللغوي. إذ أن استقراء الواقع الذي عاش فيه بنو إسرائيل، وتحليل البيئات التي تنقلوا بينها، يكشف أن ما يُعرف بالعبرية لم يكن موجودًا أصلًا، لا كلغة مستقلة ولا كلغة وحي.

فما سُمي لاحقًا بالعبرية لم يكن إلا لهجة محلية ضمن الطيف الكنعاني، لم تترك أثرًا في النقوش، ولم تُستخدم يومًا كلغة قوم، وإنما صُنعت حديثًا لتؤدي وظيفة سياسية وثقافية في العصر الحديث.

إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: بناء البيت ووحدة اللغة

جاء إبراهيم عليه السلام من مدينة أور الكلدانية جنوب العراق، وهي منطقة كانت تتحدث بالكلدانية، وهي امتداد للأكدية، وكلتاهما تنتميان إلى اللغات السامية الشرقية. لم تكن هذه اللغة بعيدة عن العربية أو الآرامية أو السريانية، بل كلها فروع من جذر لغوي واحد.

عندما اصطحب إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه إلى مكة، كان إسماعيل عليه السلام قد بلغ نحو الخامسة عشرة من عمره، ولم يكن طفلًا كما ورد في بعض الروايات. وهناك أسكنهم بأمر الله في الوادي غير ذي زرع، ثم عاد بعد ذلك وبنيا معًا الكعبة، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾.

لم يتعلم إسماعيل العربية، لأنه كان ناطقًا بها بطبيعته، فهي ليست لغة طارئة عليه. لقد كانت امتدادًا طبيعيًا للغات إبراهيم، وللتحولات التي شهدتها الكلدانية والآرامية، حتى استقرت العربية وأكرمها الله بالقرآن الكريم. 

يعقوب وأبناؤه في كنعان: الكنعانية لا العبرية

عاش يعقوب عليه السلام في أرض كنعان، وتزوج من أهلها وربى أبناءه فيها. وكانت اللغة السائدة هي الكنعانية، وهي إحدى اللهجات السامية الغربية، القريبة من الفينيقية والآرامية. لم يكن لبني إسرائيل في هذه المرحلة لسان مستقل، بل كانوا يتحدثون بلسان البيئة التي عاشوا فيها.

عندما جاؤوا إلى مصر، كانوا بدوًا رُحّلًا لا يملكون كتابة ولا تراثًا لغويًا. وهذا ما تؤكده الآية: ﴿وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلْبَدْوِ﴾. فلم تكن العبرية حاضرة ولا مستخدمة، بل لم يكن لها وجود أصلًا في هذا الزمن أو هذا السياق.

يوسف وموسى: لغة الدولة لا القبيلة

لم يدخل يوسف عليه السلام مصر بدعوة أو مبادرة منه، بل جاءها عبدًا مبيعًا حين التقطته القافلة من البئر، فباعته لعزيز مصر، لا للملك. ثم نشأ في بيت العزيز، وارتقى في سلّم الدولة، حتى جعله الملك مسؤولًا عن خزائن الأرض.

بعد أن استتب له الأمر، دعا أباه يعقوب وأخوته إلى مصر، فدخلوا بطلبه، وكانوا في الأصل من البدو، لا يحملون تراثًا لغويًا مكتوبًا، ولا لغة قومية مستقلة. وكان الهكسوس حينها يحكمون مصر، وهم قوم من أصول كنعانية يتحدثون لهجات قريبة من الكنعانية والآرامية.

بعد موت يوسف، استمر حكم الهكسوس فترة، ثم أغار الفراعنة على مصر، فطردوا الهكسوس، وقتلوا رجالهم، وأخذوا من بقي سبايا، وكان من بينهم بنو إسرائيل. ومن هنا بدأت مرحلة استعبادهم في مصر.

في هذا السياق نشأ موسى عليه السلام، متربيًا في قصر فرعون، متعلمًا للغتهم، ناطقًا بالمصرية القديمة. ولم يكن لبني إسرائيل لسان خاص، بل استمروا يتنقلون بين لهجات شعوب الأرض التي عاشوا بينها، دون أن تُعرف لهم لغة تُسمّى عبرية.

التيه ودخول كنعان: لا لغة ولا كتابة

ظل بنو إسرائيل في التيه أربعين عامًا، لا يملكون دولة، ولا أدوات كتابة، ولا تراثًا لغويًا مدوَّنًا. لم يُعرف عنهم أنهم كتبوا التوراة في تلك المرحلة، بل تلقوا الوحي على يد موسى عليه السلام، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلْأَلْوَاحِ﴾.

وبعد دخولهم كنعان، وجدوا أنفسهم في بيئة كنعانية لغويًا وثقافيًا، فذابوا فيها واستخدموا لسانها. وما عُثر عليه من نقوش لاحقة في تلك الأرض لم يكن فيها أثر للغة تُسمى العبرية، بل كانت نقوشًا كنعانية أو آرامية أو فينيقية أو نبطية.

العبرية: لم تظهر في النقوش قط

لم يُعثر على أي نقش حقيقي بالعبرية القديمة. فجميع النقوش التي يُقال عنها “عبرية”، إما كانت كنعانية أو آرامية أو نبطية أو كلدانية. حتى النقوش التي نُسبت إلى فترات بني إسرائيل، تتطابق في أسلوبها وبنيتها مع النقوش الكنعانية والفينيقية.

وقد وجدت نقوش واضحة لعرب الأنباط، خصوصًا في البترا، عاصمة مملكتهم، وهي نقوش عربية مبكرة، لكنها لم تتضمن شيئًا يُسمّى عبريًا، لا في الشكل ولا في اللغة. وهذا وحده يكفي لنفي وجود العبرية في الزمن القديم.

زمن عيسى عليه السلام: لا أثر للعبرية أصلًا

كان عيسى بن مريم عليه السلام آخر رسول لبني إسرائيل، وقد عاش في فلسطين تحت سلطة الرومان، وتحدث الآرامية، وهي اللغة السائدة آنذاك. لم يُعرف عنه أنه تحدث العبرية، ولا نقلت عنه كلمة بها.

بل لم تكن العبرية موجودة أصلًا، لا عند الكهنة ولا عند عامة الناس. لم تُستخدم في المعابد، ولا في التعاليم، ولم تُعرف بها كتابات أو شروح. فلو كانت العبرية لغة قائمة، لظهرت آثارها في خطب المسيح وأحاديثه، لكنها لم تكن.

ولذا، فإن القول بأنها اندثرت غير دقيق، بل الأصح أنها لم تكن موجودة أصلًا.

توراة موسى: ليست عبرية ولا كنعانية

التوراة التي أُنزلت على موسى عليه السلام لم تكن مكتوبة بالعبرية، بل كانت بلغة مصرية قديمة، وهي اللغة التي كانت سائدة في بيئة موسى ومجتمعه، والتي تربى فيها وتعلمها في قصر فرعون.

ثم بعد انتقال بني إسرائيل لاحقًا إلى بلاد الشام، قاموا بترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية، ثم ترجمها الرومان بعد ذلك إلى اللاتينية. وما يُقال عنه اليوم بأنه “عبرية التوراة” ليس إلا صياغة متأخرة بلغة مُخترعة أُعيد تركيبها لاحقًا في العصر الحديث، ولا علاقة لها بلغة موسى أو عصره.

أما التلمود، فقد ظهرت له في بدايته نسختان: واحدة كلدانية، والأخرى كنعانية، وهو ما يدل على أن اليهود كتبوا تراثهم بلغات متعددة بحسب البيئة والشتات، لكن لم تكن العبرية من بينها لا نصًا ولا أثرًا.

العبرية الحديثة: اختراع القرن التاسع عشر

في القرن التاسع عشر، ومع صعود الحركة الصهيونية، بدأ بعض المفكرين اليهود في أوربا، خاصة في ألمانيا وشرق أوروبا، مشروعًا لإحياء لغة قومية موحدة.

فجمعوا مفردات من التوراة والتلمود، وصاغوا منها لغة هجينة سموها “العبرية الحديثة”. وقد قاد هذا المشروع إليعازر بن يهودا، الذي قرر عام 1881م أن يتحدث العبرية فقط، وأن يجبر من حوله على ذلك. وسموا مشروعهم: “كيبوش هلشون” أي “احتلال اللغة”.

أُدرجت هذه اللغة في مناهج التعليم، واعتمدتها الدولة الصهيونية الحديثة، لكن الحقيقة أنها ليست لغة تاريخية، بل مشروع لغوي اصطناعي بُني لأغراض سياسية وثقافية.

الخاتمة: أين العبرية؟

بحثت عنها في أور، فلم أجدها

فتّشت عنها في كنعان، فوجدت الكنعانية

قلبت مصر، فوجدت المصرية

راقبت التيه، فوجدت الصمت

استمعت إلى موسى، فلم أسمعها

تأملت في لسان عيسى، فوجدت الآرامية

فأين العبرية؟

إنها ببساطة: اللغة التي لم تكن