الأغنية الشعبية: عندما تتجاوز الحدود وتنبه المشاعر

أحمد السماري – الأديب وصاحب العديد من الإصدارات الأدبية
في أحد زوايا سوق الزلّ العريق وسط الرياض، حيث تمتزج رائحة العود بالبخور، وتتماهى خطى العابرين مع ظلال الماضي، وقفت سائحة أرجنتينية تتراقص وتصفّق على أنغام أغنية شعبية قديمة: “على الوعد جيتكم يا مخلفين الوعود”.
لم تكن تفهم العربية، ولم تحتج إلى ترجمة؛ فالنغمة وحدها تسللت من بين الحروف إلى قلبها، كما يتسلل الضوء من شقوق النافذة.
في تلك اللحظة، لم يكن السوق في أصله معلمًا تراثيًا، لكنه صار مسرحًا حيًّا تذوب فيه الفوارق وتلتقي الثقافات، ويُحتفل فيه بالحياة على الطريقة السعودية: بنغمة صادقة، وعفوية آسرة، وذاكرة تحفظ الجمال في مقر الحراج الذي تحول إلى ما يشبه المتحف.
في رواية “قنطرة”، كان “وحيد” يتسلل ليلًا إلى سطح بيته، يفتح دفتر قصائد راشد بن جعيثن، ويشدّ أوتار عوده، ويُشغّل جهاز التسجيل حتى مطلع الفجر.
هناك، في تلك الأزمنة النديّة، كان فهد بن سعيد يشعل الحنين بصوته المتكسّر كأنين الصحراء، ويبعثر بشير حمد شنان وجدانيات لا تنضب، وكان عيسى الأحسائي يعزف وهو ينصت لصدى الهمسات ما بين النخيل.
وحيد، مثل كثيرين من جيله، كان يبحث عن الأغنية، يجمع الشجن، ويتسمّع لصوت الحب، ويحوّل النغمة إلى وجع نبيل، وفرح مكابر، وحنين لا يُراد له أن يموت.
وما زال الطرب الشعبي يحمل كل هذا، وربما أكثر، حين يُعاد بثّه من بشتختة قديمة في “سوق الزلّ”، أو من كفي “أبوردح” وهو يصفّق خلف بسطته العامرة بالأسطوانات، أو من جسد “شلقم” الثقيل الذي يهتز بخفة عاشق لا يريد للحن أن ينتهي.
هذا الفن، الذي احتضنته البيوت الطينية، وترعرع في الحارات الشعبية، كان مرآةً لزمن وذاكرةً حيّة.
وحين وقفت تلك السائحة الأرجنتينية ترقص على نغمة لا تفهم كلماتها، كانت في الحقيقة تُصغي إلى شيء أعمق من اللغة، إلى الإحساس الخام، إلى الصدق المصفّى، إلى الفن حين يرتقي طربًا؛ فالموسيقى الشعبية لا تحتاج إلى وسطاء.
إنها فطرة النغم حين تعود إلى أصلها، وتذكّرنا بأن الفن الصادق يحتاج فقط إلى من يُحسّه لا إلى من يُترجمه.
وحين قال “وحيد” في قنطرة: “يا لهذه الموسيقى، كيف تغذّي الأرواح، ولهذه الكلمات كيف تعالج متعبي النفس مثلي!، كيف يمكن لأي شعب أن يستغني عنها؟! الموسيقى فنّ أصيل له تاريخ موثّق لدى كلّ الشعوب والأمم، باعتبارها لغة ثانية من دون كلمات”.
كان يكتب– دون أن يدري– ما يحدث اليوم في سوق الزلّ، حين تتحوّل زيارة عابرة إلى طقس شعبي، وتصبح البشتختة آلةً زمنية تُعيدك إلى وطنك الأول، حيث الفن لا يُدجَّن، أنه كطائرٍ حرّ في سماء الذاكرة.
الفن الشعبي، إذًا، لغة وجدانية عالمية، قادرة على العبور من الرياض إلى بوينس آيرس، ومن قلب “وحيد” في الستينيات، إلى زوّار هذا العصر في سوق الزل، الذين لم يعيشوا زمن الطرب الأصيل، لكنهم وقعوا في أسره.