مبدأ عدم تحميل الضحية المسؤولية: دراسة تحليلية لرؤية المملكة العربية السعودية في القضاء على الاتجار بالبشر

مبدأ عدم تحميل الضحية المسؤولية: دراسة تحليلية لرؤية المملكة العربية السعودية في القضاء على الاتجار بالبشر

المحامي د· عبداللطيف الخرجي
أستاذ القانون في كليات الأصالة الأهلية– الدمام
وعضو الجمعية العمومية في جمعية ابتسام لمكافحة الإتجار بالأشخاص

تُعد جريمة الاتجار بالبشر من أخطر الجرائم التي تواجه المجتمع الدولي، لما تنطوي عليه من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان واستغلال للفئات الأكثر ضعفًا· وقد تزايد الاهتمام العالمي بمكافحة هذه الجريمة من خلال تبني تشريعات وسياسات شاملة تهدف إلى حماية الضحايا وردع الجناة· وفي هذا السياق، برز مبدأ عدم معاقبة الضحية بوصفه ركيزة أساسية في أنظمة مكافحة الاتجار بالبشر، حيث يقوم على فكرة أن الضحايا ليسوا جناة وإنما أشخاص وقعوا ضحية للاستغلال ويحتاجون إلى الدعم والرعاية· وتعد المملكة العربية السعودية من الدول التي تبنت هذا المبدأ بشكل واضح، من خلال نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص، الذي وضع حماية الضحايا في صميم نهجه التشريعي والإنساني·

ينطلق النظام السعودي في تعامله مع جرائم الاتجار بالبشر من رؤية شاملة تنسجم مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان· فمبدأ عدم معاقبة الضحية يضمن أن الأفعال التي يرتكبها الضحايا تحت الإكراه أو الاستغلال، مثل الدخول غير النظامي إلى البلاد أو العمل دون تصريح، لا يُنظر إليها كجرائم تستوجب العقوبة، بل كمظاهر لكونهم ضحايا يحتاجون إلى حماية قانونية وإنسانية· ويعكس هذا التوجه فهمًا عميقًا لتعقيدات هذه الجريمة، إذ إن معاقبة الضحايا تؤدي إلى مضاعفة معاناتهم وتعيق جهود إعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع·
إضافة إلى ذلك، تولي المملكة أهمية كبيرة لتوفير الدعم الشامل للضحايا، سواء من الناحية النفسية والاجتماعية أو من خلال تأمين أماكن إيواء آمنة تحميهم من أي تهديدات أو ضغوط· وتتم عملية إعادة تأهيل الضحايا عبر برامج متخصصة تهدف إلى إعادة بناء الثقة بالنفس وتزويدهم بالمهارات اللازمة للحياة العملية، بما يضمن عودتهم إلى المجتمع كأفراد فاعلين· كما يُسمح لهم بتسوية أوضاعهم القانونية والحصول على تصاريح إقامة، وهو ما يسهم في حمايتهم من إعادة الاستغلال أو الانخراط في بيئات غير آمنة·
أما من الناحية العقابية، فقد وضع النظام السعودي ضوابط صارمة تجاه الجناة، حيث لا يُعتد برضا الضحية أو تنازله كسبب لتخفيف العقوبات· هذا التشدد القانوني يهدف إلى قطع الطريق أمام أي محاولات لاستغلال الضحايا أو الضغط عليهم من قبل الجناة· ويؤكد هذا الجانب على أن المملكة لا تكتفي بحماية الضحايا، بل تعمل على ملاحقة الجناة ومحاسبتهم وفق العقوبات الرادعة، وهو ما يعزز من كفاءة النظام العدلي ويحقق الردع العام·
وعلى الصعيد الدولي، تلتزم المملكة بالاتفاقيات والبروتوكولات المعنية بمكافحة الاتجار بالأشخاص، وعلى رأسها بروتوكول الأمم المتحدة لمنع وقمع الاتجار بالأشخاص· وقد حرصت المملكة على مواءمة تشريعاتها الوطنية مع هذه الاتفاقيات، لتشكل بذلك نموذجًا متكاملًا يجمع بين التشريع الوطني والالتزامات الدولية· هذا التوافق يبرز التزام المملكة بتعزيز التعاون الدولي في مواجهة هذه الجريمة العابرة للحدود، وتعزيز مكانتها كدولة مؤثرة في حماية حقوق الإنسان على المستوى العالمي·

إن مبدأ عدم معاقبة الضحية في النظام السعودي لمكافحة الاتجار بالبشر يمثل نموذجًا متقدمًا في التوازن بين العدالة والإنسانية· فمن خلال الإعفاء من التجريم وتوفير الدعم الشامل وإعادة التأهيل، وضعت المملكة إطارًا يحمي الضحايا من الاضطهاد ويوفر لهم فرصة حقيقية لبدء حياة جديدة· كما أن التشدد تجاه الجناة والالتزام بالاتفاقيات الدولية يعكس رؤية متكاملة تهدف إلى القضاء على هذه الظاهرة من جذورها· ومن منظور أكاديمي، يمكن القول إن التجربة السعودية تقدم درسًا مهمًا في كيفية بناء نظام قانوني قادر على حماية الفئات الأكثر ضعفًا، وفي الوقت نفسه محاسبة المتورطين بصرامة·
إن استمرار المملكة في تطوير تشريعاتها وبرامجها التوعوية وإقامة شراكات دولية لمكافحة الاتجار بالبشر سيعزز من مكانتها العالمية كنموذج يحتذى به في هذا المجال· ويُتوقع أن تكون هذه الرؤية المتكاملة أحد الأعمدة الرئيسية التي تسهم في الحد من هذه الجريمة عالميًا، مع ترسيخ قيم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التي تمثل أساس أي مجتمع حضاري·