تجار الدم

عوض بن صليم القحطاني
مستشار إعلامي
كلنا سمعنا ورأينا عن مبالغ للديّة فاقت المعقول وشدت الذهول، فأصبح الدم حينها رخيصًا، واتبع شهوة الدنيا الزائلة وترك ما عند الله عز وجل، فأصبح أنه باع ابنه بمبلغ وقدره، ونسي أن الأجر والمثوبة من الله وحده عز وجل، فهو المعطي سبحانه وهو المقدِّر..
فلدي هنا رسالتين أوجهها لكل من له علاقة في زيادة مبالغ الديّة..
رسالتي الأولى.. لصاحب الدم..
أقول له: يا أخي، إن طلبك للمبالغ الخيالية لا يغنيك في شيء، فلعلّك لو سامحت لوجه الله لأتاك خيري الدنيا والآخرة.. أما طلب مبالغ هائلة فسيتم جمعها بشكلين:
الشكل الأول من الصدقات والزكاة، والأولى بها فقيرٌ يتعفف لا يجد قوت يومه، فحرمته من ذلك..
أو أسرة اجتمعت لفك عتق قريب، فالبعض لا يملك إيجار يومه، والآخر عاطل، فيدفع من عرق جبينه منكسِرًا، يحمل معها دعوات أن الله (يحمل ولا يُحمِّل من حملنا).. هذا حال أغلبيتهم.
إن كنت تنوي بناء مسجد، فالأولى العتق بدل أن تُهلك كاهل البشر.
وإن كانت حالتكم المادية بسيطة، فالمليون ريال فقط كفيلة أن تعيشهم بها أفضل عيشة..
وقفة تأمل وتدبر في قوله تعالى:
(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
يقول الإمام أحمد رضي الله عنه: نظرت في تفسير قوله تعالى:
(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
فإذا هو: إذا كان يوم القيامة قام منادٍ فنادى:
لا يقوم اليوم إلا من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا..
ثم قال: وما على رجل ألا يُعذّب الله بسببه أحد.
عادة النفوس أن تشتاق لمكافأة لا تعلمها.. وتشرئب لفرح مفاجئ..
وهي في ذلك تقدّم أي شيء لمعرفة ما ستناله من أجر غير معلوم..
هذا في الدنيا.. على بساطتها ووضاعتها التي لا تساوي جناح بعوضة..
فما بالك بالآخرة، حيث يجمع الله الخلائق… الأولين منهم والآخرين.. في بقيع واحد..
ويُنادى العبد من بين الجموع:
“من كان له على الله أجر فليقم”.
فلا يقوم إلا من عفا…
مسكين من يظن أن العفو للضعيف المهزوم.. وأن الانتصار بحسب الكيل والانتقام..
وما علم أن الانتصار الحقيقي هو في بلوغ هذا الأجر ونيله، والغبن كل الغبن أن نترك الغضب والانتقام يسلبنا إياه..
لنتدبرها أكثر:
“فأجره على الله”
ما أعظم فضل الله سبحانه وما أوسعه..
إن كان يستحيل علينا أن نتخيل بمداركنا الضعيفة
أجورًا نص القرآن عليها وعلّمنا إياها..
فكيف بأجر لا نعلمه.. أجر على الله وحده سبحانه..
(يقف القلم هنا.. وحق له أن يقف)..
رسالتي الثانية.. لسماسرة الدم.
الذين يدّعون الصلاح وهم يتاجرون بالدم، يضغطون بطريقتهم على أهل الدم بالموافقة مقابل مبلغ مادي، ويدّعي صاحب الدم أنه الوكيل، وهو يتهرب من طالبي العفو (أعيان ومشايخ وأهل خير) مدّعيًا عدم سماح أهل الدم، وهو من يُسَمسر فيه..
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الحث على السعي في نفع الناس بما أمكن من إعانتهم والشفاعة لهم، فقد ثبت عنه أنه قال:
“من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته” رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم:
“والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم:
“من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه” أخرجه مسلم.وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه حاجة قال: “اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء” رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟
فقال:
“أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي له دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرًا.
ومن كظم غيظه ولو شاء أن يُمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه يوم القيامة رضًا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له، ثبّت الله قدميه يوم تزل الأقدام” رواه الأصبهاني في الترغيب وابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.
وما أحسن قول الشاعر:
فُرضت علي زكاة ما ملكت يدي * وزكاة جاهي أن أعين وأرفدا.