لا عاربة ولا مستعربة: تحليل الأسطورة وإعادة تشكيل الهوية العربية

بندر بن عبدالله بن محمد
تفكيك الأسطورة
من أكثر المفاهيم التي ترسّخت في الوعي العربي التقليدي، مقولة أن العرب ينقسمون إلى (عاربة) و(مستعربة). فيُقال إن العاربة هم القحطانيون من جنوب الجزيرة، والمستعربة هم العدنانيون من نسل إسماعيل عليه السلام، ممن تعلّموا العربية لاحقًا من مخالطتهم لقبيلة جرهم. هذه المقولة لم تثبت في كتاب الله، ولا في سنة نبيه، وإنما تسللت من روايات القصاص وأهل الإسرائيليات إلى كتب الأنساب، فشاعت كأنها من الحقائق.
ورغم بساطتها الظاهرة، إلا أنها تخفي نزعة عنصرية مستترة، توهم بأن نسب النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعود إلى أصل غير عربي، وأن لسانه الشريف كان مكتسبًا لا فطريًا، وأن الرسالة التي أنزلت عليه ليست بلغة قومه. وهذا افتئات ظاهر على نصوص الوحي، وتقديم للرواية على القرآن، والظن على اليقين، وهو ما أنكره الله بقوله ﴿ وَإِنْ يُتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾.
اللسان العربي: من الوحي لا الرواية
القرآن الكريم يؤكد على أن النبي عربي اللسان، من قومه، وأن الرسالة التي أنزلت عليه بلسان عربي مبين، قال تعالى ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾، وقال ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾، وقال ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، وقال ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾، وقال ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾. فكيف يُقال مع كل هذا إن النبي مستعرب، أو تعلّم العربية من غيره؟ أليس هذا خلافاً لصريح القرآن؟
إسماعيل عليه السلام: عربيّ بالنشأة والبيئة
أما القول بأن إسماعيل عليه السلام (استعرب) بعد أن خالط جرهم، فلا أصل له في الوحي، ولا تثبته الحجة. فإن إسماعيل نشأ في مكة، وهي أرض عربية، وتزوج امرأة عربية من جرهم، وتكلّم بلغة قومه، وذريته هم سكان الحجاز، ومنهم جاء النبي. فكيف يُقال إنه تعلّم العربية وكأنها لغة دخيلة عليه؟ بل هو نبي، والأنبياء لا يُبعثون إلا بلسان أقوامهم، كما قال تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾. فإسماعيل كان عربيًّا بلسانه وبيئته وسياقه، ولا وجه لنزعه من أصله.
الأعراب ليسوا العرب: فرق في اللفظ والمعنى
من الأخطاء الشائعة أن تُفسّر (الأعراب) بأنهم البدو الرحل، ويُظن أن العرب ذمّوا في القرآن بسبب قوله تعالى ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ﴾، وهذا خلط ظاهر. فكلمة (أعراب) ليست جمع (عرب)، بل صيغة مزيدة بهمزة التعدي، أي أنها تحوّلت في معناها من الأصل إلى ضده. فـ (عرب) دلالة على اللسان المبين، والفصاحة، والاستقامة، بينما (أعراب) دلالة على الانفصال عن تلك القيم، فهي حالة من الجفاء والخروج عن اللسان.
اللسان العربي وصفه الله بقوله ﴿ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾، وبقوله ﴿ مُّبِينٍ ﴾، فالعربية في أصلها بيان واستقامة، أما (الأعراب) فهي اصطلاح قرآني خاص بمن خالف ذلك البيان. ومن هنا نفهم أن الأعراب ليسوا قبائل، بل حالة ثقافية واجتماعية منفصلة عن الجوهر العربي الذي نزل به الوحي.
ليست اليمن وحدها أصل العرب
من التصورات التي شاعت أن العرب كلهم من اليمن، وأنهم انتشروا بعد انهيار سد مأرب. وهذا قول فيه اختزال جغرافي وتاريخي. نعم، اليمن كانت موطن حضارات مزدهرة كسبأ وحمير، لكن العربية لم تقتصر على جنوب الجزيرة. بل نُقشت قبل الإسلام في الشمال بنقوش ثمودية ولحيانية وصفائية، وكلها تدل على وجود لسان عربي أصيل. كما أن مكة، لا مأرب، هي التي نزل فيها الوحي، وقريش، لا همدان، هي التي خرج منها النبي، والله قال ﴿ لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾. فالقول إن العرب من اليمن فقط، فيه إغفال للبعد المكاني واللساني الذي يتجلّى في كامل الجزيرة.
الأموريون والفينيقيون والكنعانيون: من أرحام الجزيرة
تاريخيًا، فإن الأموريين نزحوا من الجزيرة العربية، وتفرّعوا شمالًا. فمنهم من سكن العراق وصاروا يعرفون بالبابليين والآشوريين والكلدانيين، ومنهم من سكن بلاد الشام فعرفوا بالكنعانيين. ولغاتهم متقاربة، وجميعها تنحدر من جذر لغوي واحد.
أما الكنعانيون الذين نزلوا سواحل المتوسط، فقد اشتهروا بتجارة صبغة الأرجوان، وهي صبغة زرقاء أرجوانية كانوا يصنعونها من أصداف بحرية. الإغريق رأوا تميزهم بهذه التجارة، فسمّوهم بالفينيقيين، نسبة إلى الأرجوان. فكلمة “فينيقيين” ليست نسبًا عرقيًا، بل وصفًا تجاريًا مستمدًا من اللون. أما لغتهم، فهي من نفس الجذر السامي الذي تنتمي إليه العربية، وهي قريبة من لسان إبراهيم عليه السلام.
أبناء نوح والطوفان: بين الأسطورة والوحي
من الروايات المتداولة أن نوحًا عليه السلام كان له ثلاثة أبناء: سام، وحام، ويافث. وقالوا إن سام أصل العرب والعبريين، وحام أصل الأفارقة، ويافث أصل الأوروبيين. لكن هذه الرواية لا أصل لها في كتاب الله، بل هي من خرافات التلمود. القرآن لم يذكر أسماء أبناء نوح، ولا نسب إليهم الأمم، بل قال ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾، ولم يقل إلى البشرية.
الطوفان الذي وقع، كان عقوبة لقوم نوح، لا للبشر جميعًا، قال تعالى ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي… وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾. وقال أيضًا ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾، فكيف يُقال إن البشرية كلها عُذّبت؟!
ثم لو كانت البشرية من ذرية واحدة نجت في سفينة، فكيف اختلفت ألسنتهم وألوانهم؟! أليس الله قال ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾؟ فهذا الاختلاف آية، لا عقوبة، ولا أثر لطوفان شامل.
الخاتمة
لا يوجد في كتاب الله ولا في هدي نبيه ما يدل على أن العرب عاربة ومستعربة، ولا أن النبي محمّدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعلّم العربية من غيره، ولا أن إسماعيل كان أعجميًا. بل الثابت أن العروبة لسان، وأن الرسالة نزلت على من يتكلم بهذا اللسان، قال تعالى ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾.
فالهوية العربية ليست نسبًا مضطربًا، ولا رواية دخيلة، بل لسان وفهم وبيئة، وهُوية تثبّتها آيات الله، وتكذّبها الأساطير.
المراجع
ـ القرآن الكريم
ـ المرويات والأحاديث النبوية
ـ موسوعة الحضارات القديمة والحديثة وتاريخ الأمم – د. محمود شاكر
ـ د. هند بنت محمد التركي – مملكة قيدار
ـ دراسات لغوية وتاريخية في اللغات السامية
ـ نقوش الجزيرة العربية (الثمودية، اللحيانية، الصفائية)
ـ نقد الإسرائيليات والتقاليد التوراتية