التحكم الرقمي: أوروبا تتصدى للسيطرة التكنولوجية الأمريكية.

خاص – الوئام
تشهد القارة الأوروبية تحركًا متسارعًا لتعزيز استقلالها الرقمي وتقليص اعتمادها على شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة، وسط تصاعد التوترات والغموض حول مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.
وبينما تشكل البنية التحتية الرقمية ركيزة حيوية للنمو الاقتصادي والأمن القومي، يدقّ القادة الأوروبيون ناقوس الخطر إزاء احتكار الشركات الأمريكية لسوق الخدمات السحابية والذكاء الاصطناعي، ويدفعون باتجاه استراتيجيات طموحة لبناء منظومة تقنية أوروبية مستقلة.
هيمنة أمريكية
أكثر من ثلثي سوق الحوسبة السحابية في أوروبا تسيطر عليه شركات أمريكية مثل أمازون، ومايكروسوفت وجوجل. وتضاف إلى ذلك سيطرة تامة على أنظمة تشغيل الهواتف المحمولة، ومحركات البحث، ومنصات الذكاء الاصطناعي مثل شات جي بي تي، الأمر الذي جعل صناع القرار في الاتحاد الأوروبي يدركون حجم التبعية التقنية لواشنطن.
وأصبحت هذه التبعية تمثل تهديدًا مشابهًا للتبعية في قطاع الدفاع، حيث يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم هذه السيطرة كورقة ضغط في المفاوضات أو الصراعات التجارية. كما يثير قانون السحابة الأمريكي (Cloud Act) قلقًا كبيرًا بشأن إمكانية تدخل واشنطن في بيانات الأوروبيين، حتى لو كانت مخزنة داخل أوروبا.
التحرك الأوروبي
تحت عنوان “السيادة التكنولوجية”، أضافت المفوضية الأوروبية هذا المفهوم رسميًا إلى أجندتها الرقمية. وتعتزم المفوضة الجديدة للشؤون الرقمية، هينّا فيركونين، التركيز على الاستقلال في تقنيات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية والرقائق الإلكترونية، مشيرة إلى أهمية بناء قدرات أوروبية في هذه المجالات.
ورغم الطموحات، تواجه أوروبا معضلة أساسية وهي قلة عدد الشركات التقنية الكبرى في القارة. فمن بين أكبر 50 شركة تقنية في العالم، نادرًا ما تجد أسماء أوروبية. ويُعزى ذلك إلى صعوبات تنظيمية، تشتت السوق الأوروبية، ونقص في رؤوس الأموال المخاطرة التي تدعم نمو الشركات الناشئة.
تجربة فرنسية
شركة Mistral AI الفرنسية تمثل مثالًا على هذه التحديات. فرغم بدايات واعدة كمنافس عالمي في الذكاء الاصطناعي، تراجعت مكانتها مقارنةً بالشركات الأمريكية والصينية. هذا يبرز الصعوبات التي تواجهها الشركات الأوروبية في ظل نقص التمويل والدعم المؤسسي.
كما تتزايد أهمية مراكز البيانات والحوسبة السحابية مع انتقال الحكومات والشركات والمواطنين إلى التخزين الإلكتروني. لكن الهيمنة الأمريكية على هذه البنية التحتية الحساسة تدفع الاتحاد الأوروبي للبحث عن حلول لضمان أمن البيانات واستقلال القرار الرقمي.
ردود شركات التكنولوجيا الأمريكية
في مواجهة التحركات الأوروبية، سارعت شركات مثل مايكروسوفت وأمازون وجوجل إلى إطلاق عروض “سحابة سيادية” تحافظ على البيانات داخل أوروبا وتخضع للرقابة الأوروبية. بل وهدّدت بعضها بخوض معارك قانونية ضد الحكومة الأمريكية لحماية بيانات عملائها الأوروبيين.
تستعد المفوضية الأوروبية لإطلاق تشريع جديد هذا العام يستهدف سد الفجوة في قدرات السحابة والذكاء الاصطناعي. ويتضمن المشروع إجراءات لدعم الشركات الأوروبية وزيادة سعة المعالجة الآمنة داخل الاتحاد، مع إمكانية إدراج بنود “اشترِ الأوروبي” في المشتريات الحكومية.
نقاشات حول الحماية الاقتصادية
يدور جدل داخل أوروبا حول مدى قانونية منح الأفضلية للشركات الأوروبية في المشتريات العامة دون الإخلال باتفاقيات منظمة التجارة العالمية. ويرى بعض المسؤولين، مثل الوزير الفرنسي مارك فيراشي، أن مراكز البيانات والبنية التحتية السحابية يجب اعتبارها صناعات استراتيجية تستحق حماية خاصة.
يواجه الاتحاد الأوروبي تحديًا مزدوجًا: الحاجة إلى وضع تنظيمات ذكية لا تعيق الابتكار، وفي الوقت ذاته تقديم دعم مالي واستثماري كافٍ لبناء بيئة تقنية تنافسية. ويؤكد خبراء أن بناء سوق رقمية موحدة، واضحة القواعد، هو المفتاح الحقيقي لتعزيز تنافسية أوروبا.