وداعًا لحقبة الجهل واللامبالاة

وداعًا لحقبة الجهل واللامبالاة

د. تركي العيار
أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

في زمنٍ ليس ببعيد، كان الجهل سيد المواقف، والتغافل عملة رائجة في أسواق المجتمعات. كان الناس أسرى لمصادر محدودة من المعرفة، يخضعون لما يُقدَّم إليهم دون تمحيص أو مساءلة. وكانت الحقيقة حكرًا على من يملك المنبر أو المنصب.

أما اليوم، فقد تغيّرت المعادلة بالكامل، وتبدّلت موازين الوعي بفضل ثورة المعرفة وتعدد وسائطها. نقولها بملء أفواهنا: وداعًا يا زمن الجهل والتغافل، لقد ولّيت بلا رجعة! لم يعد الحصول على المعلومة امتيازًا خاصًا، بل أصبح حقًا مشاعًا ومتاحًا للجميع.

فوفقًا لتقرير صادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) عام 2024، فإن أكثر من 5.4 مليار شخص حول العالم يستخدمون الإنترنت، ما يعادل نحو 67% من سكان الأرض. ويقضي الفرد العادي ما يزيد عن 6 ساعات يوميًا متصفحًا الشبكة، باحثًا، متعلمًا، ومتفاعلًا مع محتوى متنوع ومتشعب.

وتشير إحصاءات Google إلى أنه يتم إجراء أكثر من 8.5 مليار عملية بحث يوميًا، ما يعكس تعطشًا جماهيريًا هائلًا للمعرفة في مختلف المجالات. لم يعد المواطن بحاجة لانتظار نشرات الأخبار أو دروس الفصل ليعرف ما يدور حوله؛ المعلومة اليوم أقرب إليه من أنفاسه.

في عالم تحكمه الشفافية والسرعة، أصبح من الصعب استغفال الجماهير أو تمرير الأكاذيب عليهم. فقد أظهرت دراسة نشرها معهد Reuters للصحافة عام 2023 أن 74% من مستخدمي الإنترنت يتحققون من صحة المعلومات بأنفسهم قبل مشاركتها أو اتخاذ موقف بناءً عليها.

وتؤكد دراسة لمؤسسة Pew Research أن 61% من البالغين في الدول المتقدمة يعتمدون على مصادر متعددة ومتنوعة للحصول على الأخبار، تجنبًا للتحيز والانحراف الإعلامي.فالجمهور لم يعد سلبيًا، بل أصبح شريكًا فاعلًا في التحقق والمساءلة والنقد. وهو ما خلق ما يُعرف اليوم بـ “المجتمع المعرفي” القادر على فلترة الحقيقة من الزيف، والتمييز بين الخبر والدعاية، وبين التحليل والتهويل.

لم تَعُد المعرفة حكرًا على مراكز النخبة أو الأكاديميات المغلقة، بل أصبحت مراكز الأبحاث والبيانات مفتوحة أمام العامة. فهناك اليوم آلاف المنصات التي توفر تقارير ودراسات موثقة في مختلف المجالات، مثل Google Scholar، وWorld Bank Open Data، وStatista، وغيرها.

ولم تعد الحواجز اللغوية عائقًا، بعد أن وفّرت الترجمة الفورية وسائط متعددة لتمكين الوصول إلى المعلومة من أي مصدر وبأي لغة.فالوعي الجماهيري: واقع لا يمكن إنكاره، لقد تغيّر وعي المجتمعات على نحو لافت. فالمواطن اليوم يناقش ميزانيات الدولة، ويتابع تطورات الذكاء الاصطناعي، ويُسائل القرارات السياسية، ويراقب الصحة والتعليم والبيئة.

في عام 2022، شهدت أوروبا وحدها أكثر من 23 ألف حملة ضغط شعبي إلكترونية عبر منصات مثل Change.org وAvaaz.org، كان أغلبها قائمًا على تحليل بيانات وتقارير علمية. هذا التفاعل الواعي ليس ظاهرة عابرة، بل هو سمة العصر الحديث. عصرٌ لا يُسامح الجهل، ولا يتساهل مع التغافل.

في الختام: وداعًا بلا رجعة، نعم، نقولها بثقة:وداعًا يا زمن الجهل والتغافل، لقد طوينا صفحتك ودفنا تاريخك غير مأسوفٍ عليه.لقد استيقظ العالم، واستردّ الإنسان وعيه، وتحول من متلقٍ سلبي إلى باحثٍ ناقدٍ ومشاركٍ فاعل. لم تعد الخرافة تمر، ولم يعد التزييف يُبهر.

المعرفة اليوم تسير في شرايين المجتمع، وتحميه من العبث والتضليل. وما دام هذا الوعي حيًا، فلن يكون للجهل مكانٌ بيننا. ولن يكون للتغافل فرصة للعودة.