روسيا… هدوء ظاهري تحت ضغوط هائلة من التحديات

منذ وصوله إلى الكرملين قبل ربع قرن، أعاد فلاديمير بوتين رسم هوية روسيا السياسية عبر مزيج من السيطرة الأمنية، والإحياء القومي، والتوسّع العسكري.
قدّم لشعبه وعدًا بثورة جيوسياسية تعيد روسيا إلى مصاف القوى العظمى، لكنه في سبيل ذلك بنى نظامًا مغلقًا، تبدو فيه الحياة اليومية مستقرة ظاهريًا، بينما تتآكل تحته مؤشرات القوة الحقيقية. واليوم، وبينما تعيش روسيا حالة من الهدوء المشوب بالحذر داخليًا، تغرق في استنزاف جيوسياسي خارج حدودها، لا سيّما في أوكرانيا، حيث أصبح الحلم التوسعي عبئًا لا يمكن التراجع عنه ولا الانتصار فيه بسهولة.
روسيا تحت قبضة الاستقرار الحديدي
وفق ما نشرت مجلة فورين آفيرز الأمريكية، أسّس بوتين لنظام يتحكم بالاستقرار دون الانزلاق إلى القمع الشامل. قام بدمج رموز روسيا التاريخية في خطاب قومي يلامس الفخر دون أن يثير الانقسام.
باتت وتيرة الحياة اليومية للمواطن الروسي تتسم بالاستقرار والانتظام، في ظل نظام سياسي مركزي يفتقر إلى تعددية حزبية فعلية أو منافسة انتخابية واسعة. ورغم وجود أدوات رقابية، فإنها غالبًا ما تُستخدم في مواجهة الأصوات المعارضة أو المنتقدة، دون أن تؤثر مباشرة على الغالبية التي تفضّل الحياد والانشغال بشؤونها الخاصة.
حلم الإمبراطورية… والعقيدة التوسعية
منذ بداياته، قدّم بوتين نفسه باعتباره الوريث الشرعي لعظمة روسيا، ووجّه انتقادات لاذعة لحقبة غورباتشوف ويلتسين التي “أضعفت” الدولة الروسية.
بمرور الوقت، تبنّى استراتيجية توسعية؛ هاجم جورجيا عام 2008، وضمّ القرم في 2014، وتدخل عسكريًا في سوريا، قبل أن يشنّ الهجوم الكامل على أوكرانيا في 2022، في محاولة لإعادة رسم خرائط أوروبا وإحياء مركزية موسكو.
الاقتصاد الحربي… مكاسب مؤقتة وخسائر طويلة
على الرغم من تأزم الجبهات وتباطؤ التقدم العسكري، فإن بوتين لا يرى تراجعًا في أوكرانيا خيارًا. فالانسحاب يعني نسف المشروع السياسي والرمزي الذي أسّسه لعقود. في المقابل، الحرب أصبحت أولوية قصوى تُدار بعقلية التعبئة الشاملة، حتى وإن كلفت الاقتصاد الروسي تباطؤًا طويل الأمد وغلاءً متصاعدًا.
من ناحية أخرى عززت الحرب قطاعات التصنيع العسكري، ما أدى إلى تراجع معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها، مع إغراء الشباب بالتجنيد مقابل حوافز مالية ضخمة. ومع أن العقوبات أغلقت أبواب أوروبا، إلا أن دولًا أخرى مثل جنوب القوقاز أصبحت منافذ بديلة. فالتوازن الداخلي مستمر طالما بقي المواطن الروسي “غير مزعج”.
أوروبا تتماسك… وأوكرانيا تقاوم
على عكس رهانات بوتين، لم يؤدِ انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تفكيك الدعم الغربي لأوكرانيا. بل إن أوروبا زادت من إنفاقها العسكري ورفعت وتيرة التنسيق داخل حلف الناتو. ورغم أن أوكرانيا لم تحقّق نصرًا ساحقًا، فإن المدن الكبرى لا تزال خارج سيطرة موسكو، والضربات الأوكرانية داخل العمق الروسي باتت أكثر جرأة وتطورًا.
بالتالي تحوّلت روسيا إلى اقتصاد حرب حقيقي. الصناعة موجهة بالكامل لتلبية احتياجات الجبهة. ومع أن الحرب وفرت فرص عمل، فإن التضخم ينهش الدخول، ومعدلات النمو في هبوط مستمر، وأصبحت الدولة في مواجهة ركود وشيك. أي انهيار لحليف إقليمي أو أزمة اقتصادية عالمية قد يُجهز على التوازن الهش.
بين حلم العظمة وكابوس الغرق
يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات مستعدًا للمخاطرة بحالة الاستقرار النسبي التي أسّسها داخليًا، في سبيل الحفاظ على مكانته كزعيم وطني صاحب مشروع تاريخي.
ما بدأ في السابق كاستراتيجية براغماتية تجمع بين كسب التأييد الشعبي وتوسيع النفوذ الخارجي، تحوّل تدريجيًا إلى رهانات عالية الكلفة. وفي ظل تعثّر الحرب في أوكرانيا وتزايد الضغوط الدولية، بدأت تكلفة هذا “الاستقرار الروسي” بالتصاعد، كاشفةً أن الهدوء الذي عرفته البلاد لم يكن بالضرورة دائمًا أو شاملًا.