أناقةٌ تتغلب على القلق: تجربة سارة مع ضغوط التقييم

هشام الجاسر
باحث في المجال الثقافي والنفسي
وُلدت حكايةُ سارة في منزلٍ يعشق الأناقة حدَّ التطرّف؛ فكلُّ مناسبةٍ عائليةٍ كانت عرضَ أزياءٍ مُصغَّرًا، تتسلّل فيه العيونُ إلى تفاصيل القماش قبل أن تلتفت إلى تفاصيل الوجوه. في طفولتها المبكرة، لم تكن سارة تغادر البيت إلّا بعد معاينةٍ دقيقة من والدتها: «هذا الطوق لا يليق بفستانك»، «أعيدي تثبيت الخُصل القصيرة، أضيفي مِشدًّا ليمسك الجانبين». كلماتٌ عابرةٌ ظاهريًّا، لكنّها حفرت في ذهن الطفلة قاعدةً صلبة: **المظهرُ المثاليُّ ليس خيارًا، بل شرطُ قبولٍ اجتماعي**.
هذا الاهتمامُ بالمظهر أحكمَ طوقَه تدريجيًّا حتى انخفضت جودةُ حياةِ سارة بوضوح؛ فتأخّرت عن محاضراتٍ، ووظائفَ محتملة، ولقاءاتٍ ممتعة. كانت أناقةُ سارة تلتهم طمأنينتها قطعةً قطعة، حتى بدا دولابُها مملكةً فاخرةً تتربّع على عرشها مخاوفُ صغيرةٌ لكنّها مستبدّة؛ فالمشكلة لم تكن في اللِّباس أو التجمُّل والتزيُّن في حدّ ذاتها، بل في التعب والتكلّف المصاحِبَيْن لهذه الطقوس.
أروي هذه القصة لأذكّر بأنّ كثيرًا من العُقَد تولد في الطفولة؛ فالعائلة إمّا أن تصنع إنسانًا متوازنًا، أو تراكم «كومةَ عُقَد». انضمّت سارة إلى **البرنامج الجمعي لتعزيز الثقة بالنفس** الذي تُقيمه مجموعة «وثبة» شبهَ شهري. وهو برنامج يجمع أشخاصًا يرغبون في تعزيز ثقتهم في جوانب مختلفة من حياتهم: العمل، اوالمناسبات الاجتماعية، اوالصداقة، اوالتعامل مع الجنس المغاير.
تم تصميم هذا البرنامج لإعادة برمجة الاستجابات العاطفية عبر تمارين تَعرُّض متدرِّجة تُنفَّذ داخل بيئاتٍ آمنة “أي أماكن لا يعرفنا فيها أحد”، مثل المجمّعات التجارية والمماشي المكتظّة بالمارة. يتدرّب المشاركون على مواجهة ما يخيفهم خطوةً خطوة، وفق «سُلَّم مخاوف» مُحدَّد بدقّة، إلى جانب تمارين تهدّئ الجهاز العصبي وتمنع انفلاته في مواقف مشابهة. ويجري كلّ ذلك تحت إشرافٍ مباشر ودعمٍ جماعيٍّ مستمرّ.
عودةً إلى سارة، واستنادًا إلى **سُلَّم المخاوف** الذي رسمته، تَبيَّن أنّ عقدتها الرئيسة تدور حول خوفها من أن تبدو وكأنّها من طبقةٍ اجتماعيةٍ عاديّة أو متوسّطة، أو أن تُوصم بأنّها لا تُحسن اختيار ملابسها ولا ترتدي “الماركات “، وما يرافق ذلك من خشية التعرّض لأيِّ لمزٍ أو نقد او حتى نظرات قد تشعل قلقها الداخلي. لذلك صُمِّمت التمارين لتستهدف هذا الوتر مباشرةً، ولكن على نحوٍ متدرّجٍ يتحدّى جهازها العصبي من دون أن يُرعبه دفعةً واحدة.وهنا نقطة الوعي لنبدأ باكتشاف فعل المخاوف والاشياء التي توقض جهازنا العصبي المسئول عن مخاوفنا ونبدا بالتعرف لسلوكياتنا بطريقة واعيه. ولنعرف بشكل محدد هذه المخاوف. نقوم بتجربة بعض التمارين (لنحدده . فقمنا بتجربة بسيطة مع ساره في احد المحلات “ الماركة” وهي تطلب تخفيض على بعض القطع! فارتسمت على وجه البائع نظرةٌ ازدرائيّةٌ صامتةٌ كأنّها تقول: «كيف تدخلين متجرًا فاخرًا وتطلبين خصمًا؟ يبدو أنّكِ لا تستحقّين وقتي…» ) فبدأت الاعراض مشابهه تمام للتي تستشعر بها في مناسباتها الاجتماعية , وهينا يضرب الوتر وتبدا تكرارات التمارين والدعم العالي للذات لاعادة هذه البرمجة.
هذه السلسلة من المواجهات التدريجية لا تهدف إلى إغراق جهازها العصبي في الذعر، بل إلى «ترويضه»؛ فالتعرّض المتكرّر والمدعوم بحوارٍ ذاتيّ إيجابيّ يعيد برمجة الاستجابة الانفعالية. وفي النهاية تكتشف سارة، ويكتشف كلُّ مشتركٍ في البرنامج، أنّ أكثر الألعاب إمتاعًا هي لعبة **«ترويض اللوزة»**؛ تلك اللوزة الدماغية المسؤولة عن إطلاق صافرات الخوف. فكلما تقدّم الوعي خطوةً، تراجع الخوف خطوتين.
في المحاولات الأولى يهبُّ الجهازُ العصبيّ كما لو أنّ «جرمًا اجتماعيًّا» ارتُكِب، فيُثقل المشهد على النفس ويشقّ على العقل و القلب تحمّلُ طوفان المشاعر المرافقة والضخ الهرموني الذي يدفعك لسلوكيات تكاد تكون من الصعب الحياد عنها مثل تجنّبُ المواقف، جلدُ الذات، الهروب، الإحجام عن تكرار الفعل، والعجز عن التصرف بعفويّة بينما يُمسِك القلق بمقود شخصيتك. غير أنّ التعرض المتكرر، حين يُرفَد بدعمٍ واعٍ وحوارٍ ذاتيٍّ مطمئن، يعمل كنسمةٍ حفرَت صخرًا: لا تكسِره دفعةً واحدة، بل تُنقِّبُه ببطءٍ وثبات. شيئًا فشيئًا تخفت صفّارةُ الإنذار؛ فيغدو الظهورُ بهيئةٍ قد يراها الآخرون «عاديّة» أو «أقلّ لباقة» تفصيلًا عابرًا لا سلطان له على داخلنا. وعندها يستردّ المرء زمامَ انفعالاته، فيختار ردَّ فعلِه بنفسه بدل أن تُمليه عليه انطباعات الآخرين.
ختاماً: واجه خوف أن تبدو «أقلّ» في أيّ شيء أناقةً، ذكاءً، سرعة بديهة، أو كفاءةً مهنيةرحتى يكلَّ هو من مطاردتك، وتملّ أنت من تصديق تهديده. عندها ينسحب مُحرِّك القلق من المقعد الأمامي، ويعود إليك مقودُ حياتك؛ تقودها بطمأنينةٍ لا تُقاس بماركة، ولا تُختبر بلمعةِ جوابٍ خاطف، بل بحضورٍ أصيلٍ يصدِّق ذاته قبل أن يطلب تصديق الآخرين.