الثغرات المتكررة في عقود الممتلكات: تحليل قانوني

الثغرات المتكررة في عقود الممتلكات: تحليل قانوني

وليد بن خالد الدلبحي
مستشار قانوني

من المسلم به في علم القانون أن “العقد شريعة المتعاقدين”، يستمد قوته من إرادة الأطراف التي تنعقد عليه، ويستظل بظل النظام الذي ينظم آثاره وحدوده، إلا أن العقود العقارية لما تنطوي عليه من مصالح مالية كبرى وأثر بالغ في استقرار المعاملات، كثيرا ما تكشف عن ثغرات قد تهدد استقرار الحق، وتفتح أبواب النزاع، فيكون لزاما على الفقيه والقاضي والموثق والمحامي إدراكها ومعالجتها، وتلك العقود تُجسد إرادة المتعاقدين في حيازة العقار او التصرف فيه، ليست بمنأى عن الثغرات التي قد تُلقي بظلالها على الحقوق وتعكر صفو المعاملات، فإن دقة الصياغة ووضح البنود هما صمام الأمان الذي يحمي الأطراف من دروب التباس قد تُفضي إلى نزاعات لا تُحمد عقباها، وفي هذا المقام، نستعرض بعضا من تلك الثغرات الشائعة.

1- غموض البنود وتضاربها: مكمن الخطر.
يلاحظ أن بعض العقود العقارية تكتفي ببيانات عامة عن موقع العقار او رقمه دون بيان حدوده واوصافه التفصيلية ومساحته ومرافقه، وهذا يقف على خلاف ما نصت عليه المادة (72) من نظام المعاملات المدنية الذي أشترط في ان تتوفر في محل الالتزام شروطاً وقررت بطلان العقد اذا لم تتوفر هذه الشروط، ومنها: “ج- أن يكون معينا بذاته أو بنوعه ومقداره أو قابلا للتعيين” إذ لا يكفي ذكر رقم الصك وحسب، بل ينبغي بيان الأوصاف التي تمنع النزاع، ويُعد الغموض في صياغة البنود التعاقدية من أخطر الثغرات التي قد تًصيب العقد العقاري، فإذا كانت الكلمات لا تؤدي المعنى بوضوح، أو كانت الجمل تحتمل تأويلات شتى، فإن ذلك يفتح الباب واسعا أما التفسيرات المتضاربة، وقد يفقد العقد جوهره الإلزامي، وكما هو معلوم: “فإن العقد شريعة المتعاقدين”، ولكن كيف تكون الشريعة واضحة إذا كانت ألفاظها مبهمة؟ إن هذا الغموض قد يمتد ليشمل وصف العقار ذاته، أو تحديد التزامات الأطراف، أو حتى شروط التسليم والدفع، مما يُعطي الفرصة لأحد الأطراف للتنصل من التزاماته أو المطالبة بما ليس له حق فيه.

2- إغفال بيان حالة العقار عند التسليم.
كثيرا ما يُبرم العقد دون أن يُبين هل العقار مؤجر أم خالٍ، وهل فيه عيوب ظاهرة أو خفية، بينما تنص المادة (338) من نظام المعاملات المدنية: “1- يضمن البائع عند تسليم المبيع سلامته من أي عيبٍ ينقص من قيمته او من نفعه بحسب الغاية المقصودة منه، والمستفادة مما هو مبين في العقد، أو مما هو ظاهر من طبيعة الشيء، أو الغرض الذي أعد له، ويضمن البائع هذا العيب ولو لم يكن عالماً بوجوده”، فمن مقتضى العدالة والنص النظامي أن يذكر المتعاقدان بوضوح حالة العقار وقت البيع، ضماناً لاستقرار الحق ومنعاً لأي ادعاء لاحق بوجود عيب مؤثر أو إشغال منتقص للمنفعة.

3- غياب أو ضعف الشرط الخاص بالتسجيل والإفراغ.
لا يغفل العارف بالقانون أن الملكية لا تنتقل في العقارات إلا بالإفراغ الرسمي التسجيل لدى الجهة المختصة، وفقاً لنظام التسجيل العيني للعقار، إلا أن بعض العقود تهمل النص الصريح على التزام البائع بالإفراغ خلال أجل محدد، مما يؤدي إلى إطالة النزاع، والحكمة تقتضي النص على التزم محدد بالإفراغ وتحديد ميعاد لذلك.

4- نقص المستندات وعدم التحقق من الملكية.
من الثغرات الجسيمة التي قد تُهدد صحة العقد العقاري، عدم اكتمال المستندات اللازمة لإثبات الملكية أو عدم التحقق الدقيق من صحتها، فكم من عقود أبرمت على أساس مستندات غير مكتملة أو مزورة، ليجد المشتري نفسه أمام واقع مرير، حيث لا يملك العقار الذي دفع ثمنه، أو يشاركه فيه آخرون، إن التحقق لا يقبل المساومة، فالعقار بطبيعته ليس مجرد بناء من طوب وأسمنت، بل هو حزمة من الحقوق التي لا تثبت إلا بسند صحيح لا تشوبه شائبة.

5- شروط الفسخ والتعويض غير الواضحة.
كثيرا ما تغفل العقود العقارية تفصيل شروط الفسخ والتعويض بشكل واضح ودقيق، ففي حال إخلال أحد الأطراف بالتزاماته، يصبح تحديد الحقوق والواجبات في غياب هذه الشروط أمراً بالغ الصعوبة، وقد يلجأ الى القضاء لسنوات طويلة، إن تحديد قيمة التعويضات المستحقة في حال الاخلال او وضع شروط واضحة لفسخ العقد، يُعد من الأمور الجوهرية التي تضفي على العقد قوة وثباتا، وتقلل من احتمالات النزاع، فالعقد وإن كان يُبرم على أساس من الثقة، إلا أن الحيطة والحذر هما ركيزتان اساسيتان لضمان استمراريته وفعاليته.

6- التوكيلات غير المحددة والتوكيلات العامة.
تُعد التوكيلات -خاصة التوكيلات العامة أو غير المحددة- من الثغرات التي قد تُستغل في العقود العقارية، فإذا كان التوكيل يُعطي الوكيل صلاحيات واسعة دون قيود واضحة، فقد يُسيء استخدامها، وقد يبرم تصرفات لا تُرضي الموكل، أو تُلحق به ضررا جسيما، وإن تحديد نطاق التوكيل بدقة وتقييد صلاحيات الوكيل بما يتناسب مع الغرض من التوكيل، هو امر لا غنى عنه لحماية حقوق الموكل، فالثقة وإن كانت أساس التعاملات، إلا أن الحذر من سوء الاستغلال هو واجب قانوني وأخلاقي.

7- عدم النص على حلول النزاع وآلية التنفيذ.
يُهمل بعض المتعاقدين النص على الجهة القضائية المختصة أو اللجوء الى التحكيم، مع بيان المدة والإجراءات، مما يفتح باب الاجتهاد والاختلاف في حال نشوب النزاع، وقد أجاز النظام السعودي اللجوء إلى التحكيم وفق شروط محددة، فيكون من الفقه القانوني تضمين العقد بنداً واضحاً بشأن ذلك.

وإذا كان العقد -في ميزان الفقه والقضاء- هو مناط التزام الإرادة بما ارتضته، فإن إحكام بنيانه وتحريره بعباراتٍ جليةٍ وألفاظٍ وافيةٍ يعد ضرورة لا ترفا، تصون الحق وتدرأ النزاع وتؤمن استقرار التعاملات، لا سيما في العقود العقارية التي تجري على محال ذات طبيعة خاصة وأثر بالغ في الذمة المالية.
وقد أكد نظام المعاملات المدنية هذا المبدأ في أكثر من موضع، وإن الناظر المتأمل في هذه النصوص النظامية يقف على الحكمة العميقة من تقريرها، إذ ترمي إلى رفع الجهالة وإحكام إرادة المتعاقدين وإلزامهم بمثرات تعاقدهم، بحيث يًبح العقدُ حاكماً وعدلاً في آن واحد، يجري أثره لا بين طرفيه وحسب، بل يمتد ليشمل الخلف العام، وتنتقل الحقوق والالتزامات بانتقال محل العقد إن كانت من مستلزماته، اتساقا مع طبيعة العقود العقارية ودوام أثرها.
والوضوح في التعاقد والتدقيق في تحرير بنوده، لم يعد ترفا ادبيا أو مهارة شكلية، بل هو واجب نظامي وضرورة عملية تصون الحقوق وتسد الثغرات وتغلق أبواب النزاع، ولئن كان العقد في جوهره التقاء إرادتين على محل مشروع وسبب صحيح، فإن تمامه في الظاهر والباطن -شكلا ومضموناً- هو السبيل إلى صيانته من البطلان أو الإبطال، وتحقيق مقصود الشريعة والنظام في استقرار التعاملات وحماية الثروة العقارية، عماد الاقتصاد واساس العمران.
فتغدو العناية بصياغة العقد وإزالة الجهالة، والتنبه لمواطن الثغرات من صميم عمل المحامي والقانوني المحنك، وليس فضلا في الفقه أو الصناعة القانونية البحتة، بل هو امتثال لروح النظام وغاياته، وتحقيق لمصلحة المتعاقدين والمجتمع على السواء، وهكذا يكون العقد العقاري في تمام وضوحه ودقته، صورة من صور العدل، ونموذجا من نماذج الأمانة، وركناً راسخاً في بناء الثقة واستقرار المعاملات في رحبا الدولة الحديثة.