الفراغ المعرفي المقنَّع: تأملات حول صيف الطلاب بين الترفيه والاستكشاف

الفراغ المعرفي المقنَّع: تأملات حول صيف الطلاب بين الترفيه والاستكشاف

بقلم: د. علي بن محمد الجديع
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود

هل جرّبت أن تسأل طالباً في منتصف الإجازة الصيفية: “متى آخر مرة فتحت كتاباً؟”
قد يدهشك بردة فعله، بنظرة استغراب، وربما بشيء من الضحك، وكأن سؤالك جاء من سياقٍ لا ينتمي إلى عالمه الحالي. وهنا –دون أن يشعر– يكون قد دخل في حالة ما يسميه بعض التربويين بـ”الارتخاء المعرفي تحت تأثير اللذة التسلوية”.

الإجازة، في أصلها، فسحةٌ مستحقة للراحة والانطلاق، لكنها –في غياب التوجيه– قد تنقلب إلى مساحة زمنية يتراجع فيها الحس المعرفي، وتتقدّم فيها شاشات الترفيه، والألعاب الإلكترونية، ومنصات التواصل، على كل نشاط ذهني منتج. إن الخطر لا يكمن في التسلية ذاتها، ولكن في استحواذها الكامل على عقل الطالب، حتى تصبح البديل الوحيد لأي فعل معرفي أو تأملي.

إن العقل الذي يألف المكافأة الفورية، لا يطيق التدرج، ولا يحتمل مشقة البناء الذهني أو البحث العميق. وتحت سطوة التسلية المطلقة، تضعف ملكة التفكير، وتتآكل تدريجياً شهوة الاكتشاف. وهكذا تتكون فجوة تربوية صامتة: عقلٌ حاضر جسديًا، غائبٌ معرفيًا، منهكٌ أمام وفرة اللذة الفورية.

وهذه الفجوة ليست فرضاً محتوماً، وإنما هي نتيجة مباشرة لهندسة زمنية مختلّة: لا توازن فيها بين اللعب والتفكير، ولا توزيع واعٍ لأوقات الراحة والمعرفة، ولا تصميم تربوي لاحتضان العقول في لحظات الفراغ.

لكن ما يغيب أحياناً هو أن هناك نماذج أخرى استطاعت كسر هذا النمط. ففي فنلندا، تُنظّم مكتبات الأحياء مشاريع صيفية تجمع بين اللعب والقراءة الحرة، ضمن برامج وطنية تربوية، بحسب ما يرد كل بداية عطلة صيفية في موقع وزارة التعليم الفنلندية

أما في سنغافورة، فوزارة التعليم تدير مخيمات صيفية معرفية تركّز على التفكير التحليلي من خلال ألعاب استراتيجية، تجمع بين المتعة والتعلُّم، كما يوضح برامجهم الرسمية.

وهذا يدعونا لطرح السؤال التربوي الأهم: ألا تستحق الإجازة أن يُعاد النظر في هندستها؟

أن تتحول من “فسحة ترفيه” إلى “مساحة متوازنة” تنمو فيها الذات، وتتنفس فيها المعرفة بجوار المتعة؟
ليس المقصود إلغاء اللعب أو الترفيه كما قد يظن أطفالنا، ولكن إعادة ضبط إيقاعهما، بحيث لا يُقصي أحدهما الآخر، ولا يُختزل الطالب في متعة تترك أثرها دون أن لا تبني جوهره.

المعرفة ليست ضد التسلية، لكنها تتطلب بيئة تعترف بقيمتها وتستغل فوائدها.

أفلا يجدر بنا أن نتوقف قليلًا، لنعيد تصميم الصيف بما يليق بعقل الطالب وروحه؟
أم سنواصل التغاضي، حتى يصبح النسيان المعرفي عادة موسمية، نُسلِّم بها كل عام، باسم “الراحة”؟