التحاور ومستقبل الشرق الأوسط

التحاور ومستقبل الشرق الأوسط

في عالم التحليل السياسي، تُعد القدرة على رسم صورة متكاملة للمشهد الإقليمي حجر الزاوية في أي طرح جاد. فالأحداث لا تقع في فراغ، والدول لا تتحرك بمعزل عن محيطها.

من هذا المنطلق، جاء اللقاء الإذاعي الذي استضاف فيه الإعلامي يوسف الحسيني، ضمن برنامجه “حروف الجر”، الكاتبة والباحثة السياسية هند الضاوي، ليمثل حالة دراسية مثيرة للاهتمام. فقد قدمت الباحثة رؤية تحليلية طموحة لمفهوم “الشرق الأوسط الجديد”، غاصت من خلالها في أعماق التاريخ الممتد لأكثر من قرن، لكن ما جعل هذا التحليل موضوعًا للنقد والتساؤل ليس ما قيل، بل ما تُرك عمدًا أو سهوًا دون ذكر.

في خضم سرديتها الممتدة زمنيًا والجريئة تحليليًا، برز غياب شبه تام لدور المملكة العربية السعودية، وكأن هذه الدولة، بثقلها السياسي والروحي والجغرافي الهائل، مجرد كيان هامشي يقع خارج خرائط التأثير التي رسمها خطابها.

بدأت الأستاذة هند الضاوي رحلتها التحليلية من لحظة تأسيسية في تاريخ المنطقة الحديث: اتفاقية سايكس – بيكو. وأوضحت كيف أن هذه الاتفاقية، التي وُقعت في 16 مايو 1916 بين الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، كانت بمثابة حجر الأساس لتقسيم إرث الدولة العثمانية المنهارة ورسم حدود النفوذ الاستعماري.

وأكدت أن هذا التقاسم حدث في ظل غياب أمريكي كامل، فالولايات المتحدة آنذاك كانت لا تزال دولة منشغلة بشؤونها الداخلية، متحصنة خلف “مبدأ مونرو” الذي أرساه الرئيس جيمس مونرو في عشرينيات القرن التاسع عشر، والذي قام على سياسة الانكفاء والعزلة عن الصراعات الأوروبية.

ثم قفزت الباحثة في سردها إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، مشيرة إلى أن هذه الحرب كانت نقطة التحول التي دفعت أمريكا للخروج من عزلتها. فبعد انخراطها في الصراع واستعراضها لقوتها الجبارة بإلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي في أغسطس 1945، تغير موقعها جذريًا على الساحة الدولية.

وبحسب تحليلها، جاءت اللحظة الفارقة في عام 1947، حين تلقت واشنطن رسالة من حليفتها بريطانيا، التي كانت ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، تعلمها فيها بعدم قدرتها على الاستمرار في دعم نفوذها في مناطق استراتيجية مثل تركيا واليونان.

هذه الرسالة، التي صدرت في عهد الملك جورج السادس وقبل تولي الملكة إليزابيث الثانية العرش، فتحت الباب على مصراعيه أمام الولايات المتحدة لترث النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، ليس بناءً على فهم عميق لديناميكيات المنطقة، بل من موقع الوريث السياسي لإمبراطورية متداعية.

في هذا السياق، قدمت الأستاذة هند شخصية محورية في نظريتها، وهي شخصية برنارد لويس، المؤرخ والمستشرق البريطاني ذي الأصول اليهودية. وأشارت إلى أن لويس لم يكن مجرد باحث أكاديمي، بل كان ضابطًا في جهاز الاستخبارات البريطاني MI6، مُكلفًا بدراسة الوثائق العثمانية بهدف صياغة استراتيجية طويلة الأمد لتفكيك الشرق الأوسط.

تقوم هذه الاستراتيجية، وفقًا للطرح، على إثارة النعرات الطائفية والعرقية لمنع أي شكل من أشكال الوحدة المستقبلية في المنطقة.

تابعت الضاوي بأن بريطانيا “صدرت” لويس إلى الولايات المتحدة، حيث حصل على الجنسية الأمريكية وتغلغل في دوائر صنع القرار، وبلغ تأثيره ذروته حين أقر الكونغرس الأمريكي رسميًا عام 1983 ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ”استراتيجية الشرق الأوسط الجديد”، وهو مخطط التفتيت الذي وُضعت أسسه قبل عقود.

لكن هنا، وعلى الرغم من التشعب التاريخي والجرأة في الربط بين الأحداث والشخصيات، تبدأ الفجوات الكبرى في الظهور. فالتحليل الذي قدمته الأستاذة هند أغفل بشكل منهجي ومثير للدهشة دور المملكة العربية السعودية.

لم يأتِ ذكر لمكانة مكة المكرمة والمدينة المنورة كقلب نابض للعالم الإسلامي، ولا للدور السعودي المحوري في دعم القضية الفلسطينية على مدى عقود، ولا للقيادة الإقليمية التي مارستها الرياض في منطقة الخليج والعالم العربي. بل إن لحظات سيادية فارقة، تُعد علامات على استقلال القرار السعودي، تم تجاهلها بالكامل. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، قرار الملك فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله – بطرد السفير الأمريكي تشارلز فريمان عام 1990، بعد أن تجاوز الأخير الأعراف الدبلوماسية وطالب بإعادة صواريخ “رياح الشرق” الصينية إلى بكين. هذا الموقف الحازم، الذي يعكس سيادة القرار السعودي، لم يجد له مكانًا في سردية بدت وكأنها مصممة لتصوير المنطقة كمجرد مسرح للخطط الغربية.

ويزداد الاستغراب حين نجد أن التحليل لم يخلُ من أخطاء تاريخية فادحة؛ فقد أشارت الأستاذة هند إلى حرب تحرير الكويت باعتبارها “الحرب الأولى”، وهو خلط واضح ينم عن عدم دقة. فمن المعروف أن حرب الخليج الأولى هي الحرب العراقية الإيرانية الدامية التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988). أما حرب تحرير الكويت، فهي حرب الخليج الثانية، التي بدأت بالغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990.

هنا تحديدًا، برز الدور القيادي الحاسم للمملكة العربية السعودية بقيادة الملك فهد بن عبدالعزيز، الذي تحرك دبلوماسيًا وعسكريًا لحشد تحالف دولي غير مسبوق. انطلقت عملية “درع الصحراء” لحماية المملكة، ثم تبعتها عملية “عاصفة الصحراء” في 17 يناير 1991، والتي انطلقت من الأراضي السعودية وبمشاركة فاعلة من القوات السعودية، وانتهت بتحرير الكويت في 28 فبراير 1991. إن تجاهل هذا الدور السعودي القيادي ليس مجرد إغفال لتفصيلة تاريخية، بل هو طمس لحقيقة أن التحرير تم بقيادة وإدارة إقليمية انطلقت من الرياض.

واستمرارًا في مسلسل الإغفالات، غاب عن حديثها حدث جلل آخر غيّر وجه المنطقة، وهو الاحتلال الأمريكي للعراق في 20 مارس 2003 وسقوط بغداد في 9 أبريل من العام نفسه. هذا الحدث لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان نقطة تحول استراتيجية أدت إلى تفكيك الدولة العراقية وتسليم مفاصلها فعليًا إلى إيران عبر تمكين الميليشيات الطائفية الموالية لطهران. إن أي تحليل جاد لخرائط النفوذ والصراع في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتجاهل هذا التطور المحوري الذي أعاد رسم موازين القوى بشكل دراماتيكي.

وعندما انتقلت للحديث عن الأزمة السورية، ركزت الأستاذة هند على شخصية “الجولاني”، معتبرة ظهوره جزءًا من مخطط استخباراتي وظيفي يهدف إلى تدمير الجيش السوري وتفكيك الدولة، تمهيدًا لدخول إسرائيل. ورغم وجاهة هذا التحليل في بعض جوانبه، إلا أنها أغفلت تمامًا الموقف السعودي الذي كان من أوائل من دعم المعارضة السورية سياسيًا ودبلوماسيًا، ونبّه مرارًا إلى الكارثة الإنسانية والسياسية التي تلوح في الأفق.

أما في الملف اليمني، فقد وقعت الباحثة في أكبر إغفال استراتيجي على الإطلاق. لقد تجاهلت تمامًا انطلاق عملية “عاصفة الحزم” في 26 مارس 2015، وهي العملية التي أعلنتها المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، استجابة لنداء الحكومة اليمنية الشرعية ضد انقلاب ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران.

الأهمية القصوى لهذه العملية تكمن في أنها كانت قرارًا سعوديًا سياديًا خالصًا، تم اتخاذه وتنفيذه دون طلب إذن من واشنطن أو انتظار مظلة غربية. لقد مثّلت “عاصفة الحزم”، التي تبعتها عملية “إعادة الأمل”، تحولًا استراتيجيًا أعلن عن قيادة سعودية جديدة للمنطقة، قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية لحماية أمنها القومي وأمن جيرانها.

هذا القرار اصطدم لاحقًا بمواقف غربية متحفظة، بل ومعارضة، خاصة عندما أعلنت بريطانيا والولايات المتحدة أن “الحديدة خط أحمر”. ورغم كل ما كشفته هذه الحرب من قيادة سعودية واضحة، لم تجد لها ذكرًا في تحليل الأستاذة هند.

وضمن قائمة الأحداث المتجاهلة، يبرز قرار دخول قوات “درع الجزيرة” إلى البحرين في 14 مارس 2011، في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز – رحمه الله. هذا القرار الحازم، الذي جاء استجابة لطلب رسمي من حكومة البحرين لحماية منشآتها الحيوية، فاجأ الإدارة الأمريكية التي كانت تدعم ما يسمى بـ”الانتقال السياسي” في دول “الربيع العربي”.
وقد أدى هذا الموقف إلى توتر شهير بين وزير الخارجية السعودي آنذاك، الأمير سعود الفيصل، ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، التي تلقت ردًا حازمًا بأن “أمن الخليج خط أحمر وليس خاضعًا للتفاوض”.

في ختام حديثها، عادت الأستاذة هند إلى الشأن الأمريكي، لتربط بين “الدولة العميقة” ومجمع الصناعات العسكرية وبين الانقلاب على الرئيس دونالد ترامب، الذي وصفته بأنه لم يكن راغبًا في الحرب، بينما كانت المؤسسات الأمريكية تسعى لتنفيذ “استراتيجية الشرق الأوسط الجديد”. وتناولت مفهوم “شد الأطراف” المنسوب لمركز “راند” البحثي، والذي يقوم على تفكيك الخصوم من الداخل.

لكنها، مرة أخرى، تحدثت عن الاستراتيجية كنظرية مجردة، دون أن تشير بوضوح إلى أن المستهدف الرئيسي من هذا المخطط هما الركيزتان الأساسيتان في المنطقة: السعودية ومصر، اللتان يمثل تماسكهما العائق الأكبر أمام مشاريع التفتيت.

في المحصلة، يمكن للمتابع أن يقدّر للأستاذة هند الضاوي اجتهادها في تقديم طرح تاريخي واسع، لكن التحليل الذي يغيب عنه ذكر مكة والمدينة، والدور السعودي في اليمن، والبحرين، والكويت، والعراق، والقدس، هو تحليل مبتور ومجافٍ للواقع. فالحديث عن الأطراف لا يشرح الصورة ما لم يُنظر إلى القلب، والقلب هنا كان غائبًا تمامًا عن المشهد.