التحديث وحاجز المثقف تجاه العالم الخارجي

التحديث وحاجز المثقف تجاه العالم الخارجي

أحمد السماري – الأديب وصاحب العديد من الإصدارات الأدبية

ثمة ما يحجب بصيرتنا دون أن ندري، ويُعتم أحكامنا رغم صفاء النظر: إنه حجاب المعاصرة، حين نعيش قرب النعمة، نعتادها، وحين نُجاور العظماء، نغفل عن عظمتهم.

نألف المألوف حتى ننسى فضله، ونتطلّع للمفقود كما لو أنه وحده الجدير بالاهتمام، وفي لحظة الاعتياد، تغدو النعمة حقًّا مكتسبًا، لا هبة تستحق الشكر، ويُصبح العالم في قومه “رجلاً عادياً” لأنهم رأوه في كل حالاته، لا في لحظة تألقه فقط.

يروي الشيخ علي الطنطاوي- رحمه الله- حكمة بالغة: “أزهد الناس في العالِم أهله وجيرانه، لأنهم يرونه في جده وهزله، وغضبه ورضاه، أما البعيدون فلا يرونه إلا في أحسن حالاته”، وهكذا، كثيرًا ما يُنكر الفضل لا لقلته، بل لقربه، وكأن العادة تمسح الهالة.

وهذا المعنى في زمن “السوشيال ميديا”، صار أوضح؛ فحين تكون من أهل المعرفة والثقافة، تكتب وتشارك وتمنح من وقتك وفكرك، يراك المتابعون من خلف الشاشة مثقّفًا ثري الطرح، مُلهمًا، جديرًا بالإعجاب.

أما الأقربون من أهل وأصدقاء ومعارف يومية، فقد لا يرونك بهذه العين، يراك بعضهم “عادياً”، أو يفسّر سكونك بأنه برود، وعمقك بأنه تعقيد؛ لأنهم اعتادوا حضورك، ونسوا قيمته.

المفارقة أن الذين لم يروك قط، يرونك أوضح، بينما الذين يحيطون بك، وقد جلسوا إليك مرارًا، يتناسون وهجك لأن المعاصرة حجبتهم عنك.

ولهذا قالت العرب: “لا كرامة لنبي في قومه”، و”زامر الحي لا يُطرب”، بل حتى البدو قالوا بمرارة التجربة: “عنز الشعيب تحب التيس الغريب”.

المعاصرة تُربك الميزان، وتُقلّب المفاهيم، هي ليست ظالمة بطبيعتها، ولكن العادة تُطفئ الدهشة، وتُربك الفهم، فكل نعمة لا يُحاط بها بالحمد تتحول إلى أمر عادي، أن تدخل على أهلك سالمًا، وأن تستيقظ دون وجع، وأن تجد من يستمع إليك، كل هذا قد يبدو بسيطًا لمن اعتاده، لكنه عظيم حين يُفتقد.