تحول رقمي: عندما يُسلبك وجهك وأنت مبتسم!

تحول رقمي: عندما يُسلبك وجهك وأنت مبتسم!

د. محمد العرب – رئيس مركز العرب للرصد والتحليل

الإنسان كائن مُحبّ للوجه…!

منذ لحظة الولادة، يلتقط الدماغ ملامح أول من رآه، الأم لا الكلمات، لا الأصوات، بل الوجه. الوجه هو توقيعك النفسي، وبصمتك الاجتماعية، وجواز مرورك إلى الآخر…!

الوجه ليس مجرد هيئة… بل هوية.

لكن ماذا يحدث حين نبدأ في كره وجهنا؟

حين نُسلّمه طواعية لمقصّ افتراضي يقطع منه ما يشاء، ويضيف ما يشاء، ويعيد تشكيله وفق نموذج لم نختره، بل تم اختياره لنا مسبقاً؟

 

نعم، نحن نعيش زمن فقدان الحق في أن نشبه أنفسنا، زمن الفلاتر…!

وهنا، لا نتحدث عن مجرد تطبيقات عبثية أو أدوات ترفيه… بل عن ظاهرة نفسية، وسوسيولوجية، وحتى عصبية، تغيّر جذرياً الطريقة التي نرى بها أنفسنا، والآخرين، والعالم…!

نحن أمام أكبر تجربة بشرية لطمس الهوية تحت ذريعة التحسين، وأخطر تحول سايكولوجي يحدث دون مقاومة… بل برغبة جماعية.

 

فلنكن دقيقين: الفلاتر لا تحسّنك، بل تستبدلك وتحوّلك من كائن حي إلى صورة قابلة للمعالجة (processable face).

تُبقي عينيك، لكنها توسّعهما.

تُبقي فمك، لكنها ترفعه قليلاً.

تُبقي أنفك، لكنها تحفّه كأنك نُحت في متحف افتراضي.

تمنحك نسخة أكثر قبولاً في السوق البصري، لكن أقل قبولاً في دماغك.

نحن لا نُحسّن صورنا… بل نُعيد برمجة علاقتنا بالمرآة.

 

علم النفس التطوري يخبرنا أن الوجه هو مركز الرسائل اللاواعية: الثقة، الجاذبية، الخوف، القبول، الرفض.

علم الأعصاب يُظهر أن الأطفال يتعرّفون على أنفسهم عبر المرآة في سن 18 شهراً.

علم الاجتماع يقول إن الصورة أصبحت أداة التفاوض الوحيدة في السوق العاطفي والاجتماعي.

وعلم النفس السريري يحذّر: استخدام الفلاتر بشكل منتظم مرتبط باضطرابات تشوّه صورة الجسد، والاكتئاب، واضطراب القبول الاجتماعي.

 

ورغم كل هذا…

لا زلنا نُسلم وجوهنا إلى أدوات مجهولة المصدر، تعيد تشكيلها بما يخدم المعيار الأعلى الذي لا نعرف من حدده.

 

السؤال المحوري هنا:

هل نستخدم الفلاتر لأننا لا نحب أنفسنا؟ أم أننا لم نُعطَ فرصة أن نحبها أصلاً؟

الفلاتر لا تأتي في فراغ، بل في بيئة سمّمت كل تعريف للجمال.

بيئة تقول لك: لا تكن سميناً… لكن لا تكن هزيلاً.

ولا تكن قبيحًا… لكن لا تكن متصنّعاً.

وكن طبيعياً… لكن مثل العارضين المعدّلين رقمياً…!

 

نعم، نحن ضحايا مفارقة الجمال.

أن يُطلب منك أن تكون نفسك… بشرط أن تشبه الآخرين.

وهنا تكمن المفارقة القاتلة.

الفلاتر تقول لك إنك جميل إذا لم تكن أنت.

والمشكلة أن عقلك يصدّق.

 

دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي (fMRI) أثبتت أن الدماغ يبدأ بربط الصورة المعدّلة بمشاعر إيجابية أكثر من صورته الحقيقية… بعد الاستخدام المتكرر للفلاتر.

أي أن ما تراه في السنابشات… يبدأ دماغك باعتباره الحقيقة، فيتولد كرهٌ لا واعٍ للواقع، ورغبة في العيش داخل الصورة.

 

وبهذا، تكتمل دائرة المسخ.

الوجه الحقيقي يتحول إلى خيانة.

المرآة تتحول إلى عدو.

وكل ظهور علني دون فلتر… مغامرة وجودية.

 

هل هذا تافه؟

ليس حين تعرف أن جيلاً كاملاً من الفتيات يُفكر في الجراحات التجميلية ليس رغبة في تحسين مظهره، بل في مطابقة صور الفلتر.

ليس حين تطلب طفلة بعمر 11 عاماً من طبيب تجميل أن يجعلها تشبه صورتها على (تيك توك).

ليس حين تُلغى مقابلات وظيفية لأن الشخص (لا يشبه صورته).

 

إنه ليس تافهاً… بل مدمر.

الفلاتر تخلق نظاماً طبقياً بصرياً: وجوه مقبولة… ووجوه يجب تعديلها.

وكل من لا يستطيع الدفع أو التجميل أو تعديل الصورة… يصبح خارجاً عن النظام…!

 

وهكذا، يتحول السوشيال ميديا من منصة تواصل… إلى منصة استبعاد.

من لا يُجاري، يُهمّش.

ومن لا يُعدّل، يُقصى.

ومن يَظهر بوجهه… يُهان.

 

أسوأ ما تفعله الفلاتر ليس أنها تغيّرك، بل أنها تقنعك بأنك لن تُقبل إلا إذا تغيّرت.

وهذه الجملة، حرفياً، سُمّ عصبي.

لأنها تُحقن في دماغك كلما فتحت الكاميرا.

كلما مررت أمام مرآة.

كلما رغبت أن تحب نفسك… لكنك تذكرت صورة مُعدّلة.

 

وهنا، تدخل النفس في حرب.

بين ما تعرفه كوجهٍ حقيقي،

وما تُجبر على تصديقه كوجهٍ أفضل.

وبين الاثنين، يتصدّع الانتماء إلى الذات.

هذا التصدّع هو ما يفسّر الانفجار في اضطرابات القلق الاجتماعي، والنرجسية الزائفة، والتعلق المرَضي بصورة إلكترونية لا يمكن تكرارها في الواقع.

 

وهنا بيت القصيد:

الفلاتر لا تطمس وجهك فقط… بل تشوّه إدراكك للزمان.

تمنحك شباباً دائماً في الصورة… فتشعر بالذعر من التقدم في العمر.

تمنحك بشرة لا تشوبها شائبة… فتبدأ في كره كل ملمس طبيعي.

تمنحك وهم الكمال… فترى في كل عيب شخصي هزيمة.

 

وفي النهاية، تصبح مجرّد نسخة من توقعات الآخرين، لا من نفسك.

أخطر ما يمكن أن يحدث للإنسان…

أن يرى وجهه ولا يعرفه.

أن يسمع صوته ولا يصدقه.

أن يعيش داخل صورة لا يمكن أن تنطق بالحقيقة… ولا أن تبكي، ولا أن تشيخ، ولا أن ترتجف.

وجهٌ ثابت… بلا حياة.

صورة مثالية… بلا قصّة.

 

هكذا تصنع الفلاتر أشباه بشر.

يمشون بيننا، يلتقطون الصور،

ويختفون في اللحظة التي يُطفأ فيها الضوء… لأنهم لا يحتملون العتمة.

 

ولذلك، التمرد لم يعد رفاهية… بل ضرورة.

لا لمحو الفلاتر من الإنترنت،

بل لمحوها من ذاكرتنا النفسية.

علينا أن نحب التجاعيد، لأنها تذكّرنا بالضحك والبكاء.

أن نحب البثور، لأنها تخبرنا أننا نعيش.

أن نحب الظلال تحت العيون، لأنها تقول إننا لم ننم… لأننا نُفكر، ونقلق، ونحلم.

 

فلنحب الوجوه كما هي… لا كما صمّمتها برامج (تحسين الوجه).

لأن من لا يعرف وجهه، لن يعرف نفسه.

ومن لا يعرف نفسه… سيعيش للأبد وجهاً لغيره.