الإرث الإنساني الدائم في عالم متغير

الإرث الإنساني الدائم في عالم متغير

د. سعود النداح – مستشار اجتماعي

قالت لي والدتي -رحِمها الله- ” القوي من يعطي وليس من يأخذ” لم أستوعب هذه المقولة إلا بعد ان خضت غمار التجارب فالحياة وفهمت بعد ذلك أن ما قالته كان هو رأس هرم الإنسانية.

في زحمة الحياة وسرعة دوران عجلة الزمن، يقف الإنسان في كثير من الأحيان أمام تساؤلات مصيرية حول قيمته ومعنى وجوده. نعيش في عالم مليء بالصراعات والتحديات، حيث تُصبح الإنسانية هي الخط الفاصل بين أن نحيى حياة مليئة بالسلام والتعاون أو أن نغرق في دوامة العزلة والانقسام.

 

الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي لا يكتمل وجوده إلا من خلال علاقاته مع الآخرين. ومع ذلك فإن هذه العلاقات لا تُقاس بمدى قربها أو كثرتها، بل بمدى عمقها وإنسانيتها. فالإنسانية ليست مجرد شعور عابر أو كلمات تقال في المناسبات، بل هي فعل وسلوك يُترجم في مواقف الحياة اليومية. إنها أن تمد يدك لتساعد دون انتظار مقابل، وأن تستمع لصوت الآخر دون أن تضع شروطاً مسبقة لفهمه أو تقبله. الإنسانية هي تلك القوة الناعمة التي تجمع القلوب وتصنع جسوراً من الأمل بين النفوس المتعبة.

 

ولكن في خضم السعي لتحقيق الطموحات الشخصية والمادية، غالباً ما يغيب عنا هذا البعد الإنساني. يتحول الإنسان إلى آلة تسعى لتحقيق أهدافها غير مدرك أن القيمة الحقيقية تكمن في أثره على من حوله. فما جدوى النجاح إذا كان مصحوباً بدموع من حولك؟ وما قيمة تحقيق الأحلام إذا كان الطريق إليها مليئاً بآلام الآخرين؟

 

في المقابل نجد أن أبسط التصرفات الإنسانية قد تصنع فرقاً هائلاً في حياة أحدهم. قد تكون كلمة طيبة هي كل ما يحتاجه شخص يعاني في صمت، وقد تكون ابتسامة صادقة هي البلسم الذي يخفف أوجاع روح منهكة. فالأفعال الصغيرة التي تحمل في طياتها قمة الإنسانية، هي التي تُعيد التوازن لهذا العالم المزدحم بالصراعات وعطاء يزاحم الأخذ الذي أصبح هماً للأغلبية.

 

إن قسوة الحياة ليست مبرراً لغياب الرحمة، بل هي حافز يدعونا لزرع بذور الخير في كل مكان. فالإنسانية لا تتجلى في اللحظات السعيدة فقط، بل تظهر بوضوح في الأوقات العصيبة حين يتسابق الجميع للنجاة بأنفسهم، يظهر الإنسان الحقيقي في قدرته على التضحية، وفي استعداده لمساندة الآخرين دون تردد، وهذا ما يجعل الإنسانية قيمة لا تتأثر بالزمن، بل تنمو وتزدهر كلما وُجدت النفوس الطيبة.

 

إن ما يخلد الإنسان ليس ماله أو سلطته، بل بصماته الإنسانية التي يتركها في قلوب الآخرين. وما أجمل أن يتذكرنا الناس بكلمات تحمل في طياتها حباً وامتناناً لأننا كنا جزءاً من رحلة شفائهم أو سعادتهم.

الإنسانية إرث نتركه وراءنا لتكون دليلاً على أن وجودنا لم يكن عبثياً وأن الحياة رغم كل شيء يمكن أن تكون أجمل حين نختار أن نكون إنسانيين بحق.

تذكروا دائماً ” القوة فالعطاء وليس فالأخذ “.