العلاقات بين السعودية وروسيا: شراكة تتطور وتأثير دولي مشترك

العلاقات بين السعودية وروسيا: شراكة تتطور وتأثير دولي مشترك

تشهد العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا الاتحادية تطورًا ملحوظًا في مختلف المجالات، تعكسه الزيارات رفيعة المستوى والمباحثات السياسية والاقتصادية المستمرة، وسط حرص من قيادتي البلدين على تعزيز الشراكة الثنائية والاستفادة من الإمكانات الكبيرة التي يمتلكها الطرفان.

وفي ظل عالم يشهد تغيرات متسارعة، تؤكد الرياض وموسكو حضورهما كقوتين مؤثرتين، لا سيما في ملفات الطاقة والسياسة الدولية، وتبرزان كشريكين استراتيجيين تجمعهما مصالح مشتركة ورؤى متقاربة.

خلال زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى موسكو مؤخرًا، برزت مؤشرات جديدة على تنامي مستوى التعاون بين البلدين، حيث شدد الوزير السعودي على أهمية تكثيف الشراكة في مجالات الاقتصاد والثقافة، وأشار إلى الزخم المتصاعد الذي يشهده التعاون الاقتصادي، في وقت تتسارع فيه الخطى نحو تسهيل إجراءات السفر وزيادة التبادل التجاري والسياحي.

وأكد الوزير أن المملكة تسعى إلى تعزيز الحوار البناء مع روسيا في ظل التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، مشيرًا إلى وجود مؤشرات إيجابية على مستوى العلاقات الشعبية، من بينها ارتفاع عدد السياح المتبادلين، معربًا عن أمله في إبرام اتفاقية للإعفاء من التأشيرات قريبًا.

من جانبه، أشار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى تضاعف عدد السياح السعوديين إلى روسيا 6 مرات خلال عام واحد، كما زار المملكة نحو 36 ألف روسي، ما يعكس تحسنًا كبيرًا في التواصل الشعبي.

تنسيق وثيق في ملف الطاقة

ومن أبرز أوجه التعاون بين المملكة وروسيا، التنسيق المشترك في إطار تحالف “أوبك+”، حيث يُعد البلدان من كبار منتجي الطاقة عالميًا. وقد أكد الأمير فيصل بن فرحان أن هذا التعاون البنّاء ساهم في استقرار سوق الطاقة العالمية، كما شدد لافروف على التزام بلاده بمواصلة العمل مع المملكة للحفاظ على هذا التوازن.

شراكة استراتيجية.. ورؤية اقتصادية طموحة

لم تتوقف العلاقات عند التنسيق السياسي والطاقة، بل امتدت لتشمل مجالات الاستثمار والتكنولوجيا والتبادل التجاري. ويجسد ذلك مشاركة السعودية كضيف شرف في منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي 2026، وهو ما اعتُبر خطوة مهمة نحو تعميق الروابط الاقتصادية وجذب الاستثمارات.

ويعكس حجم التبادل التجاري بين البلدين، والذي تجاوز 12.5 مليار ريال في عام 2023، تنوعًا لافتًا، حيث تشمل الصادرات السعودية إلى روسيا الألمنيوم واللدائن والفواكه، فيما تتركز الواردات على منتجات معدنية وحبوب ولحوم وحديد وفولاذ.

تفاهمات سياسية وإنسانية

وتحضر الملفات السياسية بقوة في العلاقات الثنائية، إذ ناقش الجانبان خلال الزيارة دعم إقامة دولة فلسطينية، والتعاون في الملف النووي الإيراني، فضلًا عن جهود المملكة في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا. وقد شدد الوزير السعودي على التزام المملكة بدعم الحلول السلمية ووقف التصعيد، في تأكيد لدورها المحوري كوسيط دولي مسؤول.

وقد أسفرت تلك الجهود عن نتائج ملموسة، من بينها الاتفاق على هدنة بحرية بين روسيا وأوكرانيا، ما يعزز صورة المملكة كقوة دبلوماسية فاعلة على المسرح الدولي.

جذور تاريخية لعلاقات متينة

تعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة وروسيا إلى عام 1926، عندما اعترف الاتحاد السوفيتي بالمملكة كأول دولة في العالم تعترف بها رسميًا. ورغم انقطاع العلاقات لاحقًا، فإنها استؤنفت عام 1990، ومنذ ذلك الحين شهدت مسارًا تصاعديًا في كافة المجالات.

وقد أسهمت الزيارات المتبادلة بين قيادتي البلدين، وخاصة الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو عام 2017، وزيارات سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى روسيا، في ترسيخ هذه العلاقة ودفعها إلى آفاق جديدة.

كما توجت هذه الجهود بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المملكة عام 2019، والتي شهدت توقيع عدد كبير من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، شملت قطاعات الطاقة، والصناعة، والسياحة، والبحث العلمي، والتقنية، والعدل، والفضاء.

رؤية 2030.. حافز لتوسيع آفاق التعاون

تلعب رؤية المملكة 2030 دورًا مهمًا في تعزيز العلاقات السعودية الروسية، خصوصًا في ضوء رغبة موسكو في الاستفادة من الفرص الاستثمارية الضخمة التي تتيحها هذه الرؤية، بينما تدعم الرياض التنويع الاقتصادي والانفتاح على شراكات نوعية، من بينها الشراكة مع روسيا.

وقد أثمر التعاون الاستثماري عن تأسيس صندوق مشترك بين صندوق الاستثمارات العامة والصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة بقيمة 10 مليارات دولار، إضافة إلى صناديق استثمارية في مجالات الطاقة والتقنية المتقدمة.

تعاون في الفضاء والثقافة والرياضة

لم يقتصر التعاون بين الرياض وموسكو على الملفات الاقتصادية والسياسية، بل امتد إلى مجالات أخرى كالثقافة والإعلام والرياضة. فقد أطلقت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية القمر الصناعي “سعودي سات 4” من قاعدة روسية، كما تم تنظيم فعاليات ثقافية مشتركة، وترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية، وإطلاق بث إخباري باللغة الروسية عبر وكالة الأنباء السعودية “واس”.

ويبرز الجانب الإنساني كذلك، من خلال حرص المملكة على تسهيل مناسك الحج والعمرة للمسلمين الروس، الذين يشكلون نحو 14% من سكان روسيا، بما يعزز الروابط الدينية والثقافية بين البلدين.