الطحالب.. مستقبل كوكب الأرض

الطحالب.. مستقبل كوكب الأرض

د. محمد العرب

رئيس مركز العرب للرصد والتحليل

في اللحظات التي تترنّح فيها الحضارات، لا تَصمد الفلسفات، ولا تُجدي القوانين…!

وحدها الكائنات البسيطة تعرف كيف تُفلت من أنياب الانقراض، فكلما تعقّدت منظومات الإنسان، كلما سقطت أسرع تحت ضغط الزلازل، الجفاف، الحرب، والانفجارات المناخية القادمة. وبينما ينشغل البشر بترميم أنظمتهم السياسية والهندسية والطبية، ثمة كائن يسبح في الصمت… لا يملك جيوشاً، لا أبواقاً، لا عقيدة، لكنه يتهيأ ليكون الناجي الأخير في كوكب لم يعد يُجيد الاحتفاظ بسكانه…!

 

لسنا بحاجة إلى أن نستشرف ألف سنة قادمة كي نعرف من سيبقى، يكفي أن نفهم من لم يختفِ خلال المليارات الماضية.

في قلب هذه المعادلة القديمة، يقف الطحلب – الكائن الذي لا يملك أوراقاً ولا سيقاناً، لكنه يملك الخلود…!

 

كائن لا يتكلّم، لكنه يزهر حيث تسقط اللغة. لا يخوض حروباً، لكنه يحتلّ كل شبر من الماء والهواء. لا يملك جينات النصر، بل أسرار التكيّف.

إنه ليس نباتاً بالمعنى الكلاسيكي، لكنه أصل النبات، وبذرة البقاء حين تنطفئ الحقول. كان شاهداً على ولادة الأوكسجين، وعلى أول تنفّس حدث في الغلاف الجوي. عاش تحت حمم البراكين، وداخل محيطات ملتهبة، وعلى جدران الصخر، وفي أحشاء الجليد. لا يُشترط له مناخ، ولا حليف، ولا أرض، ولا موسم. يكفيه الضوء… أو حتى بقاياه.

 

حين نتحدث عن كوارث المستقبل، فإننا لا نحتاج فقط لمن يتحمّل، بل لمن لا يحتاج..!

الطحلب لا يحتاج الأرض، ولا التربة، ولا المبيدات، ولا شبكات الري، ولا حتى الرعاية. ويكفي أن يتوفّر له ركن من ضوء، وماء، وبعض ثاني أوكسيد الكربون، فيتحوّل فوراً إلى مصنع مصغّر للحياة.

 

أعتقد… ستأتي لحظة، وليس بعيداً، حين تفشل السدود، وتنهار سلاسل التوريد الزراعي، وتصبح الحقول مجرد غبار مُبرمج على العطش.

حينها لن يبحث الإنسان عن الذهب، بل عن شيء أخضر لا يُكلفه أكثر من قطرة ماء.

شيء لا يحتكر الطعام، بل يُعيد تعريفه. ولن يجد أمامه سوى هذا الكائن الذي لم يسأله يوماً: من أنت؟

بل ظلّ يقول له: أنا كنت هنا قبلك… وسأبقى بعدك.

 

في المستقبل، لن يُقاس الأمن الغذائي بعدد الأطنان، بل بعدد الأيام التي يمكن لكائن أن يصمد فيها دون مساعدة.

ولن تكون السيادة في امتلاك السلاح، بل في امتلاك الكائنات القادرة على إنتاج الغذاء في ظروفٍ تتكسّر فيها حدود الزراعة.

وفي هذا المضمار، لا شيء يُضاهي الطحلب:

يُنتج بروتيناً عالي القيمة، يحتاج لمساحة لا تُذكر، ويعمل بلا انقطاع… كأنه لا ينام.

 

سيكون طعاماً… ودواءً… ومصدراً للطاقة… وخريطة للهروب البيولوجي من الانقراض.

ليس هذا استعراضاً علمياً، بل إنذار فلسفي:

كلما ازدادت كفاءة الإنسان التقنية، زادت هشاشته الوجودية.

وكلما ازداد ذكاؤه… قلّت مرونته.

 

الطحلب لا يُخطط، لكنه ينجو.

لا يطمح، لكنه لا ينقرض.

وإذا كان الإنسان يتباهى بقدرة دماغه على ابتكار أدوات البقاء، فإن الطحلب يكتفي بأن يكون هو البقاء.

 

في قرون ما بعد الكارثة، حين تختفي المدن، وتُمحى الجيوش، ويُنسى التاريخ…

سيخرج الطحلب من شقٍّ في الجدار، أو من ندىً على حجر، ليعيد دورة الحياة من البداية، دون أن يسأل أحداً.

سيعود ليرسم اللون الأخضر في عالم بلا ذاكرة، ولا وجوه.

ولن تكون هناك قصة أخرى تُروى، سوى قصة الطحلب:

الكائن الذي لم ينتصر… لأنه لم يحارب، لكنه بقي لأن الجميع انهار.

 

فإذا أردنا أن نستشرف الغد، فلننظر لا إلى من يسيطر اليوم، بل إلى من يستطيع أن يزهر بصمتٍ وسط الركام.

 

الطحلب ليس مجرد كائن…

إنه فلسفة بقاء،

وقوة لا تحتاج إلى عنف،

وهو، دون أن يدري،

الوريث الطبيعي لكوكب ضاق بأحلامنا…!