الطيور المهاجرة: فن الرصد السري في الفضاء.

كل عام، تعبر مليارات الطيور الأجواء الأميركية، وتقطع آلاف الكيلومترات حول العالم لتصل إلى وجهاتها الموسمية.
أحد أبرز هذه الطيور “الخطان الشمالي” (Arctic tern) الذي يسجل خلال حياته مسافة تعادل الذهاب إلى القمر والعودة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تعرف هذه الطيور إلى أين تتجه؟
وفقًا للباحثة مريم ليدفوغل، مديرة معهد أبحاث الطيور في ألمانيا، فإن الطيور تعتمد على مجموعة من الحواس التي تساعدها على توجيه نفسها خلال الرحلة، بعضها مألوف لدينا، وأخرى ما تزال غامضة علميًا.
البصر والشم.. أدوات التوجيه الأولية
تستخدم الطيور حاستي البصر والشم كوسيلتين أساسيتين للملاحة. الطيور التي هاجرت سابقًا قد تحفظ المعالم البارزة كالأودية والجبال لتسترشد بها. أما الطيور التي تعبر البحار، حيث تقلّ المعالم، فقد تعتمد بدرجة أكبر على الشم.
في تجربة علمية، حينما تم حجب الممرات الأنفية لطائر “شيروط سكوپولي” (Scopoli’s shearwater)، فقد الطائر قدرته على تحديد وجهته فوق البحر، لكنه ظل قادرًا على الطيران فوق اليابسة.
البوصلة الشمسية والنجمية
الطيور التي تطير نهارًا تستعين بـ”بوصلة شمسية”، وهي آلية تجمع بين موقع الشمس في السماء والإيقاع اليومي الداخلي للطائر (الساعة البيولوجية). أي أن الطائر يُحدد الاتجاه الذي يسير فيه بناءً على موقع الشمس وتوقيت اليوم.
لكن معظم الطيور تهاجر ليلًا، مما يجعل النجوم وسيلتها الأساسية للتوجيه. وتقوم بذلك عبر التعرف على الأنماط النجمية حول “القطب السماوي” الذي تحدده تقريبيًا “نجم الشمال” (Polaris)، وهو ما يستخدمه البشر أيضًا منذ قرون في الملاحة.
القوى المغناطيسية.. الحاسة الخارقة
عندما تحجب الغيوم الشمس والنجوم، تلجأ الطيور إلى حاسة خارقة تُعرف بـ”الاستقبال المغناطيسي” (Magnetoreception)، والتي تُمكنها من الإحساس بالمجالات المغناطيسية للأرض الناتجة عن حركة المعادن المنصهرة في نواة الكوكب.
الدراسات أظهرت أن تغيّر المجال المغناطيسي يؤثر على قدرة الطيور على تحديد وجهتها. في إحدى الدراسات، تم التلاعب بالمجال المغناطيسي حول الحمام الزاجل، مما أدى إلى فقدان الطيور قدرتها على العودة إلى موطنها.
لكن السؤال الأكبر: كيف تتم هذه الحاسة بيولوجيًا؟
يرجّح البروفيسور بيتر هور من جامعة أكسفورد أن الجواب يكمن في مادة كيميائية تُسمى “كريبتوكروم” (Cryptochrome) الموجودة في شبكية العين، وهي تتفاعل مع الضوء الأزرق وتستجيب للمجال المغناطيسي.
ومع ذلك، لا تزال تفاصيل هذه الآلية غير مفهومة بالكامل، مثل عدد جزيئات الكريبتوكروم الموجودة فعلًا في العين.
كذلك، تشير بعض الدراسات إلى احتمال وجود مستقبلات مغناطيسية داخل منقار الطيور تحتوي على معدن “الماغنيتايت” (Magnetite)، وترتبط بمسارات عصبية تنقل الإشارات إلى الدماغ.
الضوء المستقطب.. دليل خفي في السماء
وبالإضافة إلى ذلك، تمتلك الطيور القدرة على اكتشاف “الضوء المستقطب”، وهو نمط من الضوء تتذبذب فيه الموجات في اتجاه موحد. وعندما تنتشر أشعة الشمس عبر الغلاف الجوي، تصبح مستقطبة بطريقة يمكن للطيور استشعارها باستخدام خلايا خاصة في أعينها، حتى في وجود غيوم.
منظومة متعددة الحواس
تشير ليدفوغل إلى أن الطيور لا تعتمد على وسيلة واحدة فقط، بل تدمج بين إشارات متعددة بحسب الظروف، كما نفعل نحن حين نستخدم البصر في وضح النهار، واللمس في الظلام.
لكن لا تعمل هذه الأدوات دائمًا بالكفاءة نفسها. فمثلًا، تتأثر الملاحة المغناطيسية سلبًا خلال العواصف الرعدية أو فترات النشاط الشمسي المرتفع، وهي عوامل تُحدث اضطرابات في المجال المغناطيسي للأرض.
الغريزة الوراثية.. الدافع الأساسي
في نهاية المطاف، تتحكم الجينات في السلوك الملاحي للطيور. فالاستعداد للهجرة، وكذلك المسافة والاتجاه، كلها سلوكيات موروثة. ويعمل الباحثون حاليًا على تحديد الجينات المسؤولة عن هذا السلوك وآلية عملها.
ويشير كل من ليدفوغل وهور إلى أن فهم هذه الأنظمة ضروري لنجاح جهود الحماية البيئية وإعادة توطين بعض أنواع الطيور. إذ أظهرت دراسة أن 45% من محاولات نقل الطيور إلى مناطق جديدة باءت بالفشل، لأن الطيور ببساطة تعود إلى موطنها الأصلي بفضل مهاراتها الملاحية المتطورة.
يعلق هور: “جهود الإنسان لنقل الطيور نادرًا ما تنجح، لأنها بارعة في الملاحة لدرجة أنها تعود فورًا إلى موطنها الأصلي عند أول فرصة”.