قصص ودروس من إفريقيا

قصص ودروس من إفريقيا

حكاوي ودروس إفريقية …
عندما نغلق انفسنا على ثقافة واحدة ،فاننا نعتقد أن القيم الموجودة فيها متفردة ،و غير موجودة عند الشعوب الأخرى.
بمزيد من الحراك و الترحال و التواصل مع الاخرين ، نكتشف أن هذه الثقافات ناتجة عن التواصل و الأنصهار الاجتماعي بين هذه المجموعة أو تلك ، فتكون هناك قيم ثقافية مشتركة بصورة أو بأخرى بين المجموعات البشرية المختلفة بغض النظر عن الزمان او المكان .
قبل عشر سنوات تقريبا كنت مع صديقي اليوغندي صامويل، أبحث عن شقة للايجار في أحد أحياء كمبالا المكتظة بالاجانب . و لانشغالنا بالتنقل من مكتب عقارات إلى آخر منذ الصباح الباكر ، و ضياع الزمن مع السماسرة حتى اقتراب مغيب الشمس ، كنت في غاية الجوع فطلبت من صامويل أن ينتظرني لاشتري لنا (فيشار) تصنعه من الذرة الشامية فتاة عشرينية في محل صغير ، و تعرضه بصورة جميلة و انيقة ، إشتريته لنتصبر به ريثما نعود إلى السوق و نتغدى ..
اشتريت منها عبوتين، واحدة لي و الأخرى لصديقي .
قبل ان اشتريها كنت افكر و أخشى في أن يراني أحدهم آكل في الطريق العام . ففي ثقافتنا المحلية عند اهلنا الفولان (#البلاكو) لا يجوز للرجل أن يأكل في الطريق العام ، و قمة البؤس و العيب أن يأكل و هو يمشي في الطرقات أو في الأسوق على مرأى من الناس .. طول حياتي معه لم أرى والدي يأكل خارج البيت ، بحكم عمله في سوق سنار يفطر في البيت ثم يقضي بقية يومه في السوق صائما لا يأكل ولا يشرب شيئا حتى يعود ، سألته في ذلك قبل وفاته بفترة قال لي طوال عمره الذي فاق التسعين وقتها لا يتذكر انه أكل أو شرب في الطريق العام أو الأسواق ابدا . عندما نكون في سفر من سنار إلى الخرطوم ، يمتنع عن تناول اي شئ حتى في السيارة ، يقول لي :
كل انت و اتركني .
بمرور الزمن أصبحنا نسافر في الصباح الباكر جدا و نصل وجهتنا قبل العاشرة صباحا .
رحمه الله كان متمسكا جدا بقيم #البلاكو .
ناولت صامويل عبوته في كيس معها قارورة ماء ، كنت مترددا جدا ما بين الإرهاق و الجوع الذي يفتك بي و بين أن التقي بالصدفة شخصا أعرفه من اهلي و معارفي و انا آكل في الطريق .
و منذا الذي يراني في هذا المكان البعيد جدا من الديار؟ . في تلك الفترة قبل عشر سنوات نادر جدا أن تلتقي سودانيا خارج منطقة تمركز السودانين في اروا بارك . ليس الأمر كاليوم لو رفعت حجرا لوجدت سودانيا …
اكثر ما استغرب له ان تجد سودانيا وفد إلى كمبالا خلال أقل من عام يشتكي بأن البلد كلها اتملت سودانيين 🤣🤣، بالرغم من أن اهل البلد لا يشتكون مثلنا ، بل ولا يهتمون ابدا …
نزاع داخلي بين الجوع الذي يدفعني لفتح الفيشار والأكل منه أثناء تجوالنا. و بين قيمة البلاكو التي تحض على عدم الأكل في الطريق …
في الحقيقة أصبحت القيمة وقتها بالنسبة لي الا يراني احد و انا آكل اكثر من قناعتي الذاتية بجدواها في تلك اللحظة، و هذا يدفعنا لإعادة التفكير في جدوى الكثير من العادات و القيم التي نشأنا و وجدنا المجتمع يكبلنا بها بالرغم من أهمية الكثير منها في اصلاح نفوسنا …
اخيرا اقنعت نفسي بألا احد يعرفني في هذه المنطقة ناهيك ان يعرف بثقافة او سلوك أهله غير موجودون في هذه المناطق . فتحت الكيس و اكلت الفيشار ، و أخرجت قارورة المياه و افرغتها في جوفي .
لاحظت ان صديقي اليوغندي لم يأكل بالرغم من انه اشتكى لي أيضا بأنه جائع . فسالته لماذا لا تأكل ؟
رد علي بجدية دون أن يلتفت نحوي بجملة صدمتني ولم انساها ابدا ، تمنيت وقتها لو أنني صبرت عن الفيشار حتى نعود . جملة جعلتني بعدها اتواضع كثيرا في تقدير ثقافتي تجاه ثقافة الآخرين . فأي قيمة تتباهى بها ستجدها في مجتمع آخر بصورة أرفع و أقيم ، و اي سمة لا تعجبك في مجتمع ما ستجد مقابلها أخرى أسمى مما لديك . قال لي :
الإفريقي النبيل لا يأكل في الطرقات …
لم يزد من جملته هذه و انا لم اناقشه ، لكنه هز قناعاتي و اعاد ترتيب مسلماتي في نظرتي لثقافة الآخرين .
سالم الامين بشير كمبالا /يونيو٢٠٢٥