“هذا ليس دفنًا، بل زفاف العريس” .. “أم سمير” تبكي على ابنها الذي قضى جراء انهيار السيدة زينب.

«النهارده مش جنازة.. ده زفّة عريس»، قالتها أم «سمير تامر» بصوت مخنوق، والدموع لا تتوقف، وهي تقف أمام مسجد زين العابدين في السيدة زينب بالقاهرة، تمسك بنعش ابنها طالب الثانوية العامة، وتردد وكأنها ترفض التصديق: «كان بيذاكر عشان الامتحان.. كان نفسه ينجح»، إذ انهار العقار محل سكنه في شارع قدري، ليلقى مصرعه مع 8 آخرين، فلم تكن الساعات الأولى من فجر الأربعاء الماضي، عادية، كانت مليئة بالصرخات، والغبار الكثيف، والتراب الممزوج بالدم، فالكل أصبح يردد مأساة العقار المكون من 5 طوابق الذي انهار فجأة، وحاصر العشرات من سكانه بين الطوب والحديد.
«البيت وقع في ثانية.. سمعنا صوت كأنه قنبلة»، هكذا وصف الحاج «فاروق»، صاحب الجراج الملاصق للعقار المنهار، لحظة الانهيار، إذ كان الجدار الفاصل بينه وبين العقار لا يتعدى بضع سنتيمترات، يشير بيده المرتجفة إلى بقايا سيارات مطمورة تحت الركام: «11 عربية راحوا.. كانوا مركونين هنا، أنا كنت واقف جوه لما حصلت الكارثة». (يمكنكم الاطلاع على الشهادة بالفيديو بالضغط هنا).
بجانب «فاروق»، وقف رجل يرتدي جلبابًا رماديًا ممزقًا من الغبار، يجهش بالبكاء: «أنا كنت شاري شقة في الدور التاني.. بـ800 ألف قبل أيام بس»، قالها بصوت متقطع، وأضاف أحد الجيران لمواساته: «احمد ربنا إنها راحت فلوس بس، ومروحتش معاها». (تفاصيل أخرى يمكنكم الاطلاع عليها بالفيديو بالضغط هنا وهنا)
قوات الحماية المدنية والهلال الأحمر في سباق مع الزمن: «أول حد طلعوه كانت طفلة.. ميتة»، يقول عم «فتحي»، أحد سكان الشارع، ويضيف: «ناس كتير اتطلعوا أموات.. بس شفت ولدين طلعوا عايشين، غير كده كله ميت».
من بين الضحايا كان سمير تامر، طالب بالثانوية العامة، في الصف الثالث الأدبي، كان يذاكر ليلة الحادث، يقول والده: «كنا في الشارع، ونادينا عليه: انزل يا سمير، البيت بيقع.. بصّ من الشباك، وقال: حاضر، وأنا نازل، بس مقدرش يلحق».
«محمد»، صديق «سمير»، كان يبكي بحرقة أمام المشرحة: «صلينا العشاء مع بعض، وقال لي هطلع أكمل مذاكرة.. حلمه كان يدخل كلية إعلام أو سياسة واقتصاد»، إذ تم استخرج جسده بعد أكثر من 20 ساعة تحت الأنقاض.
أم «سمير» طالب الثانوية: «ده مش دفن.. ده زفّة عريس»
في مشرحة زينهم، توافدت الأسر وسط بكاء متواصل وصراخ مكتوم: «أنا عايز أغسّله بإيدي.. عايز أشوفه عريس»، يصرخ والد «سمير» وهو يرتجف، في مشهد أبكى الحاضرون.
في ساحة مسجد زين العابدين، وسط الزحام والعيون التي لا تكف عن البكاء، كانت أم «سمير» واقفة بجوار النعش، تحتضنه كأنها تحتضن ابنها للمرة الأخيرة، تترنح بين النساء، وصوتها يعلو رغم الانكسار: «ده مش دفن.. ده زفّة عريس»، قالتها وهي تضع يدها على خشب النعش وتهمس: «ابني كان بيحلم يدخل الجامعة، كان بيذاكر كل يوم، وبيقولي يا ماما هفرحك.. أنا فرحت بيه بس مش بالشكل ده»، ثم رفعت عينيها للسماء، وأضافت: «هو دلوقتي عريس في الجنة.. بس أنا اللي اتكسرت». (يمكنكم الاطلاع على لحظة خروج جثمان طالب الثانونة العامة بالضغط هنا).
انهيار عقار السيدة زينب- تصوير: محمد القماش
انهيار عقار السيدة زينب- تصوير: محمد القماش
«مسلم» كان يعمل «دليفري» ويحلم بالتخرج وراح تحت التراب
ثم جاء الدور على «مسلم»، شاب عشريني، طالب بكلية السياحة والفنادق، كان يعمل «دليفري» ليُعيل أسرته: «كان نفسه يتخرج ويشتغل شغلانة محترمة»، تقول خالته، التي فقدت القدرة على الكلام، واكتفت بوضع يدها على قلبها بينما الجثمان يُحمل أمامها.
مسجد زين العابدين شهد جنازات عدة في صباح واحد، سيارة نقل الموتى كانت تُحمل بجثمان تلو الآخر، ووراءها موتوسيكلات وشباب يرتدون الأسود بالكامل: «كأنها زفة.. بس زفة حزينة»، قال أحد أصدقاء «سمير».
كانت اللافتة السوداء المعلّقة على باب العقار المجاور مكتوب عليها أسماء 8 ضحايا: ليلى، زين، عزة، مجدي، مها، سمير، مسلم، وعبير.
«ياسين»، أحد أصدقاء «مسلم»، قال: «كان نفسه يفتح مشروع سياحي صغير، وكان بيقول لي دايمًا: مش لازم تبقى غني، بس لازم تعيش بكرامة».. صمت «ياسين» لبرهة، ثم أضاف: «الكرامة اتدفنت النهاردة».
ورغم استغاثات السكان المتكررة قبل الحادث، لم تأتِ لجنة الحي في موعدها المحدد، يقول أحد السكان: «قالوا هييجوا الخميس.. مقدروش، لأن البيت وقع قبل فجر الأربعاء». (يمكنكم متابعة تفاصيل بالضغط هنا)
انهيار عقار السيدة زينب- تصوير: محمد القماش
جميع الجثامين أُخرجت من تحت الأنقاض.. مشرحة زينهم تمتلئ بذوي ضحايا انهيار عقار السيدة زينب
أما صاحب العقار المجاور فأكد أن العقار المنهار كان يسكن فيه في الستينيات الفنان نور الشريف، ثم سكنت فيه عمته لفترة قبل أن تتركه، وأوضح أن البيت كان مر عليه تنكيس مؤخرًا، وتم ترميم السلم من الرخام، دون أي مؤشرات على الانهيار.
أحد رجال الإنقاذ قال إنهم عملوا أكثر من 20 ساعة متواصلة: «مفيش أصعب من إنك تطلع طفل ميت وتحمله لحد ما تسلمه لأهله.. الكلمة الوحيدة اللي تسمعها: رجّع لي ابني».
إخلاء سبيل مالك المنزل
قررت النيابة العامة إخلاء سبيل مالك العقار، بينما طالب الأهالي بتشكيل لجنة عاجلة لفحص العقارات المتهالكة في المنطقة، وبدأ عدد من السكان بجمع توقيعات لإرسالها إلى رئاسة الحي.
داخل خيمة العزاء، وُضعت صور الضحايا، بينما تستقبل الأم المكلومة المعزين، وتهمس كل حين: «هو فين.. كان بيقول لي مش هتعبك في المذاكرة السنة دي».
وفي نهاية اليوم، كتب والد «سمير»- طالب الثانونة العامة- منشورًا على حسابه الشخصي: «القصة خلصت.. سمير مات».
جميع الجثامين أُخرجت من تحت الأنقاض.. مشرحة زينهم تمتلئ بذوي ضحايا انهيار عقار السيدة زينب
جميع الجثامين أُخرجت من تحت الأنقاض.. مشرحة زينهم تمتلئ بذوي ضحايا انهيار عقار السيدة زينب
عند زاوية الحارة، جلس شاب عشريني على الرصيف، عاقدًا يديه خلف رأسه، يحدّق في الفراغ: «أنا كنت شفت مسلم قبل الحادث بساعات.. كان راجع من توصيل أوردر وقال لي: الدنيا صعبة بس ربنا بيكرم.. كان بيضحك، والنهاردة صورته في النعش ما بتفارقش عيني».
علامة في يد جثة.. هكذا تعرّف الأبناء على والدتهم «عبير» بين الركام
على بعد أمتار، تقف الحاجة «عبير» أمام منزلها، تمسح دموعها بطرحة باهتة وتقول: «الحي سايبنا نموت.. بيت ورا التاني بيقع، وبيقولوا لنا نصبر»، ثم تشير إلى منزل مجاور: «البيت ده ميل.. ميل علينا، بس مش عايزين يسمعونا».
يُذكر أن اسم «عبير» كان ضمن قائمة الضحايا: عبير ياسين أمين، 61 عامًا، والتي خرجت من بين الركام جثة هامدة، لم يتعرف عليها أولادها إلا بعلامة في يدها.
أمام المشرحة، وقفت صديقة «مها محمد مصطفى»، 47 سنة، تغالب بكاءها وهي تقول: «كانت لسه بتجهز لبنتها جهازها.. قالت لي: أخيرًا هنفرح»، ثم سكتت وقالت: «مفيش فرح.. كله راح».
البحث عن المفقودين والضحايا في حادث انهيار عقار السيدة زينب
البحث عن المفقودين والضحايا في حادث انهيار عقار السيدة زينب
داخل غرفة صغيرة بالمشرحة، جلس شاب ينظر في الأرض ويهمس: «أنا صاحبتهم.. كنت عندهم من يومين، شربنا شاي واتكلمنا عن الدنيا.. النهاردة كنت بشيل جثة سمير»، ويضيف وهو يشهق: «فيه حاجات كنا بنخطط نعملها سوا، بس الوقت خلّص قبل ما نبدأ».
في الحارة، انتشرت لافتات سوداء معلقة على الجدران، تُنذر بالمأساة وتُذكّر بالموت، تحتها كتب أحد الأطفال بطباشير أبيض على الأرض: «سمير كان صاحبي.. هو راح فين؟».
رجل سبعيني مرّ بالقرب من الطباشير، توقف قليلًا، ثم قال: «كأن الناس دي كانت مستنية الدور.. كله ساكت، كله مستسلم.. وإحنا بنحاسب الأرواح بدل ما نصلّح البيوت».
البحث عن المفقودين والضحايا في حادث انهيار عقار السيدة زينب
اهالي ضحية انهيار عقار السيدة زينب ينتظرون استخراج جثمانها
أحد أقارب الضحية «مجدي محمد متولي عياد»، 67 سنة، قال إنه كان يعمل بالمعاش ويعيش في الطابق الأخير، وأنه «مات وهو بيصلي العشاء.. سبحان الله، مكانش يرضى ينام غير لما يقرأ قرآن، ربنا اختاره في ساعة رحمة».
مأساة الطفل زين الذي توقفت حياته عند 7 سنوات
في منزل بسيط مجاور، كانت والدة الطفل «زين محمد طلعت»، 7 سنوات، تحتضن ملابسه وتردد «كان فاضل أسبوع ونعمل له حفلة.. كنت حاجزة له كيكة بس عمره وقف عند 7».
في المستشفى، توافدت وفود شعبية لتقديم العزاء، لكن الحزن كان أعمق من المواساة، أحد الأهالي صاح بصوت غاضب: «بقى لازم نموت عشان تفتكرونا؟! كل بيت هنا بيت مائل أو منهار أو مستني مصير مشابه!».
المفاجأة أن لجنة الحي التي تأخرت عن فحص العقار قبل انهياره بيوم، حضرت اليوم التالي لتوثيق الحطام، قال أحد السكان: «جايين يصوروا اللي وقع، بدل ما كانوا يمنعوه يقع».
البحث عن المفقودين والضحايا في حادث انهيار عقار السيدة زينب
اهالي ضحية انهيار عقار السيدة زينب ينتظرون استخراج جثمانها
أمام مسجد زين العابدين، وُضعت نعوش الضحايا في صفوف متراصة: «دي مش جنازة.. ده موت جماعي»، همس أحدهم، وتقدّم إمام المسجد بالدعاء: «اللهم اجعل ضحايا هذا العقار من الشهداء».
واحدة من الجارات كانت توزع زجاجات مياه على المارة وقالت: «مافيش حاجة نقدر نعملها غير إننا نسقي الناس زي ما الضحايا سقونا بالحزن».
في ختام الجنازة، جلس والد سمير على سلم المسجد، يرد على المكالمات الواردة إليه، ويقول للجميع عبارة واحدة: «الحكاية خلصت.. سمير مات بس هو ارتاح، إحنا اللي هنعيش بالحزن».
البحث عن المفقودين والضحايا في حادث انهيار عقار السيدة زينب
انهيار عقار بحي السيدة زينب
انهيار عقار بحي السيدة زينب
وفقًا لجهات رسمية، فإن حي السيدة زينب يضم مئات العقارات القديمة، كثير منها صادر له قرارات تنكيس أو ترميم، لكن التنفيذ إما متعطل أو غير موجود.
مصدر مسؤول في الحي صرّح بأن العقار المنهار «صدر له تقرير تنكيس فعلي»، ولكن التنفيذ تأخر بسبب عدم التنسيق مع الجهات المختصة، وقال: «الحي لم يتقاعس، لكن هناك إجراءات تستغرق وقتًا»، وهو تصريح أثار سخط الأهالي.