«قصص من تاريخ مصر المعاصر» .. جولة زمنية من رمال «أبوقير» إلى حريق القاهرة وثورة يوليو

«قصص من تاريخ مصر المعاصر» .. جولة زمنية من رمال «أبوقير» إلى حريق القاهرة وثورة يوليو

فى كتابه «حكايات فى تاريخ مصر الحديث: من نابليون ومحمد على إلى حريق القاهرة»، يصحبنا الدكتور أحمد عبد ربه فى رحلة ساحرة عبر الزمن، حيث ينسج خيوط التاريخ بقلمٍ يرفض النسيان، هنا التاريخ ليس مجرد أرقام وأحداث، بل قصص حية تتنفس، تحمل أنفاس الشعب المصرى، طموحات قادته، وتناقضاتهم، من خداع نابليون المسرحى إلى عبقرية محمد على، الذى شيّد دولة على أنقاض خصومه، إلى ديون إسماعيل التى أغرقت حلمه الوردى، وشجاعة وفطنة أحمد عرابى وملذات وعالم الملك فاروق، يروى عبد ربه حكاياتٍ تجمع بين صخب المعارك وصمت المقاومة، ليرسم لوحة بانورامية تُعيد تشكيل الوعى بتاريخ مصر الحديث، هذا الكتاب ليس مجرد رحلة تاريخية، بل دعوة للغوص فى أعماق الإنسانية التى صنعت أمة لا تعرف الاستسلام، حيث كل صفحة تهمس: «تعالَ، عِشْ هذه اللحظة، واستمع إلى نبض التاريخ».

الكتاب الصادر عن دار الشروق – ٢٠٢٤، يرسم الباحث الدكتور أحمد عبد ربه به لوحة سردية مفعمة بالحياة لهذه الحقب التاريخية، ويحتوى الكتاب على مجموعة مقالات توثق للتاريخ، نشرها المؤلف على مدار أكثر من عشرين أسبوعًا فى جريدة «الشروق»، حيث استكشف فيها فصولاً من تاريخ مصر السياسى الحديث، بدءًا من الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت (١٧٩٨-١٨٠١)، مرورًا بحقبة حكم محمد على (١٨٠٥) وخلفائه، وصولاً إلى أحداث حريق القاهرة وثورة يوليو ١٩٥٢.

البداية حين وطئت أقدام نابليون بونابرت، القائد الفرنسى الطامح، أرض مصر، والذى لم يكن وصوله مجرد غزو عسكرى، بل كان صداماً حضارياً بين عالمين: أوروبا الثورية المتعطشة للهيمنة، ومصر العثمانية المترنحة تحت حكم المماليك، يروى المؤلف ببراعة كيف أمر نابليون جنوده بإظهار الاحترام لعادات المصريين ودينهم، فى محاولة لكسب ودهم، لكن هذا الاحترام كان كقناع ناعم رقيق، يخفى تحته طموحات إمبراطورية ودهاءً سياسياً، صورة لقائد طموح صمم خطة ثلاثية المحاور لكسب قلوب المصريين، استرضاء الباب العالى، وإضفاء شرعية على حملته، لكن، كما يكشف المؤلف، كانت هذه الخطة بمثابة قلعة من رمال، سرعان ما انهارت تحت وطأة الحقيقة. يصف الكتاب لحظة وصول نابليون إلى شاطئ أبوقير البحرى، حيث طلب لقاء القنصل الفرنسى، لكن محمد كُريِّم، حاكم الإسكندرية، فرض شروطه بحذر، مرسلاً القنصل مصحوباً بأهل البلد، فى مشهد يعكس التوجس المصرى من الغريب القادم من بعيد.

يكشف الكتاب عن وجه القائد الفرنسى القاسى: حاكم كُريِّم، وأمر بإعدامه رمياً بالرصاص فى القاهرة، ليصبح عبرة لكل من تسول له نفسه التمرد ويبرز عبد ربه هذا المشهد بتفاصيل مروعة كمشهد سينمائى يجسد صوت الرصاص الذى يمزق سكون القاهرة، وأنظار الأهالى المذهولين تتابع جسد كُريِّم وهو يسقط، لكن الكتاب لا يكتفى بتصوير القسوة والوحشية، بل يعرض أيضاً دهاء نابليون، الذى كان يوزع الوعود بالاحترام والعدل، بينما يلوح بسيفه ويظهر العين الحمراء بين الحين والآخر لمن يعارضه، هذه الرقصة الأخيرة بين السيف والقلم، كما يصورها الكاتب، تجعل من نابليون شخصية أقرب إلى ممثل مسرحى تراجيدى تجمع بين العبقرية والوحشية فى وقت واحد، بينما تُشكل أصوات الشعب المقهور لحن المقاومة الصامت.

يبدأ الكتاب برسم صورة لمصر تحت الحكم العثمانى قبل وصول نابليون بونابرت عام ١٧٩٨، كانت مصر آنذاك ساحة للمؤامرات والصراعات بين العثمانيين والمماليك، حيث نهب العثمانيون ثروات البلاد دون أى جهد لتطويرها، عانت مصر من الفساد والنزاعات الطائفية، وظلت غارقة فى الفوضى حتى استعاد المماليك الحكم، بقيادة على بك، عام ١٧٧١، الذى حاول إصلاح القضاء والمالية، وتطوير المشافى وطرق التجارة، وأعاد تعيين الأقباط فى مناصب عليا، لكن الخلافات بين قادة المماليك أعادت البلاد إلى مربع الفوضى، ممهدة الطريق لوصول الفرنسيين، ومع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر، بقيادة نابليون بونابرت عام ١٧٩٨، بدأ فصل جديد فى تاريخ مصر، كان احتلال مصر بالنسبة للفرنسيين خطوة استراتيجية لتأمين تجارتهم فى البحر المتوسط، والسيطرة على البحر الأحمر، ومنافسة بريطانيا فى الهند، فى معركة إمبابة عام ١٧٩٨، هزم نابليون المماليك بقيادة مراد بك، وأسس نظامًا جديدًا للحكم فى القاهرة، عبر ديوان من تسعة مشايخ مصريين، مع احترام الأوقاف الدينية والمحاكم الشرعية.

غلاف الكتاب

يروى المؤلف، بلغة نقدية حادة، خطة الخداع الثلاثية المحكمة، عن كيف كشفت المواجهات الشعبية عن الوجه الحقيقى للاحتلال: جنود فرنسيون يدنسون المساجد، يهدمون بعضها، ويضطهدون العلماء بالسجن أو الإعدام، فى المحور الثانى، يسلط عبد ربه الضوء على محاولة نابليون استمالة الباب العالى فى إسطنبول، مدعياً أن هدفه هو القضاء على المماليك، أعداء العثمانيين، لتعزيز سلطتهم فى مصر، يصور هذه السياسة كرقصة دبلوماسية ماهرة، تارة يظهر كحليف للسلطان العثمانى لكن، كما يكشف الكتاب، كانت هذه محض خدعة، أدركها الباب العالى، بعد وقت قصير، ليكشف نوايا نابليون الحقيقية.

ورغم ذلك يحمل الفرنسيون معهم خلف المعدات العسكرية بذور الحداثة: بنوا الجسور والقناطر، وأسسوا مستشفيات، وأدخلوا تنظيمًا سياسيًا حديثًا عبر مجالس المحافظات، رافقتهم بعثة علمية ساهمت فى تقدم العلوم والفنون، لإقناع المصريين بحب الفرنسيين لهم، كجزء من مسرحية نابليون الكبرى لإضفاء الشرعية على احتلاله، هذه الحداثة جاءت بثمن باهظ: ضرائب قاسية، وتجاوزات الجنود الفرنسيين الذين انتهكوا حرمات المصريين، ومارسوا جرائم السرقة والقتل وشرب المخدرات، مما أثار استياء الشعب واضطهاد العلماء جعلت المصريين يرون فى الفرنسيين محتلين لا مخلّصين رغم ذلك، كانت الحملة الفرنسية بمثابة شرارة أيقظت مصر من سباتها الذى طال.

يروى عبد ربه، مستنداً إلى شهادات المؤرخين، عن «المئات من حوادث السرقة والنهب» التى ارتكبها الجنود الفرنسيون، رغم القواعد الصارمة التى فرضها عليهم نابليون، هذه التفصيلة تكشف عن هشاشة الانضباط الذى حاول القائد الفرنسى فرضه، يمكن للقارئ أن يتخيل جنوداً فرنسيين، يحملون أسلحتهم ويتباهون بزيهم العسكرى، يتسللون تحت جنح الظلام إلى بيوت الأهالى، يسرقون الممتلكات وينتهكون الأمان الذى يزعم أنه جاء إلى القاهرة ليفرضه بالقوة!، هذه الصورة، التى يرسمها المؤلف بلغة موجزة لكنها قوية، تكشف عن التناقض بين الشعارات الإدارية والواقع المرير الذى عاشه المصريون تحت ظلال الاحتلال.

كما يروى الكتاب كيف أمر نابليون، الجنود بتجنب احتساء الخمر احتراماً للتقاليد المصرية، فوجدوا فى الحشيش ملاذاً بديلاً، يحصلون عليه من الأهالى فى أزقة وحوارى الإسكندرية الضيقة، يصف المؤلف بأسلوب شبه فكاهى كيف تفاجأ نابليون بتأثير الحشيش على جنوده، فأمر بمنعه، لكنه، فى تناقض صارخ، سمح لهم بصنع خمور محلية فى ثكناتهم المنعزلة.

ولا يتوقف الأمر هنا، إذ يكشف الكتاب عن تجاوزات هؤلاء الجنود: بعضهم باع السلع التى جلبها الأسطول، وآخرون نهبوا بيوت الأهالى، بل وصل الأمر إلى جريمة قتل بشعة طالت سيدة تركية وخادمتها، يروى المؤلف كيف حاول نابليون فرض الانضباط، فأمر بإعدام الجنود المتورطين فى القتل أمام زملائهم، فى مشهد دراماتيكى يعكس محاولته المستميتة للسيطرة على جيشه وكسب ود المصريين فى الوقت ذاته ليكشف عن ازدواجية سياسة نابليون: من جهة، كان يسعى لإظهار احترامه للتقاليد المصرية، ومن جهة أخرى، كان يغض الطرف عن انتهاكات جنوده طالما ظلت بعيدة عن الأنظار كأنك تشاهد الجنود المذنبون وهم يقفون فى ساحة مكشوفة، أنظار زملائهم المذهولين مثبتة عليهم، بينما يتم تنفيذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص.. هذا المشهد، لم يكن مجرد عقوبة، بل كان رسالة واضحة من نابليون إلى جنوده وإلى الأهالى: الانضباط فوق الجميع، والعدالة – ولو كانت قاسية – ستُطبق.

قصة انحرافات الجنود الفرنسيين وتجاوزاتهم هى شهادة على قدرة التاريخ على أن يكون أكثر من مجرد سرد أحداث سياسية من خلال تفاصيله الغنية – من الحشيش فى الأزقة إلى الخمر فى الثكنات، ومن النهب إلى جريمة القتل المروعة – يقدم الكتاب لوحة بانورامية لتجربة الاحتلال الفرنسى، تكشف عن التناقضات الإنسانية والثقافية التى شكلت تلك الفترة.. هذه القصص، التى ينسجها عبدربه ببراعة، تجعل القارئ يعيش أجواء الإسكندرية فى صيف ١٧٩٨، حيث اختلطت رائحة الحشيش بصوت الرصاص، وامتزجت محاولات التفاهم بفوضى الغزو.

بعد خروج الفرنسيين عام ١٨٠١، دخلت مصر فى صراع جديد بين المماليك والعثمانيين، حتى برز محمد على، قائد القوات الألبانية، ليسيطر على الحكم عام ١٨٠٥، بعد ثورة شعبية ضد الوالى العثمانى خورشيد باشا، يُلقب محمد على بـ«مؤسس مصر الحديثة»، فقد استكمل مسيرة الحداثة التى بدأها الفرنسيون، أسس دواوين لإدارة الشؤون المحلية، قضى على المماليك فى مذبحة القلعة، بخدعة صورها المؤلف بلغة دراماتيكية: أكثر من ٤٠٠ مملوكى يدخلون القلعة فى موكب احتفالى، غافلين عن مصيرهم، ليُجهز عليهم فى لحظة غدر أنهت وجودهم فى مصر، هذه الخدعة، كانت نقطة تحول، حيث رسّخ محمد على سلطته، لكنه زرع بذور الخوف فى قلوب الأهالى، لكنه على النقيض صادر الأراضى الزراعية لصالح الدولة، مما عزز خزينته، وحسّن من نظام الرى، وأدخل محاصيل جديدة لمصر كالقطن، وبنى بنية تحتية طموحة، مثل قناة الإسكندرية، لكنه ركز على تمويل جيشه الضخم، الذى وصل إلى ١٣٠ ألف جندى فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مستلهماً النموذج النابليونى، ليخلق جيشاً نظامياً حديثاً، متخلصاً من القيادات المتمردة والجنود غير النظاميين، مما أثقل كاهل الفلاحين، كانت إصلاحاته تهدف إلى تعزيز سلطته أكثر من تحقيق تنمية بشرية شاملة.

بعد وفاة محمد على باشا عام ١٨٤٨، شهدت مصر تراجعًا فى عهد عباس حلمى، حيث أُغلقت المصانع والمدارس، ثم جاء الخديو إسماعيل، الذى فتح أبواب مصر للقوى الأوروبية، مستدانًا بإفراط حتى فقدت مصر استقلاليتها، يروى عبد ربه، بلغة غنية وموجزة، كيف تحولت لحظة افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ بحفل باذخ، تكلف وحده مليوناً و٤٠٠ ألف جنيه، ليُضاف إلى ديون أخرى من تعويضات اتفاقية ١٨٦٦، وبيع حصة مصر فى القناة، ومصاريف السمسرة، يمكن للقارئ أن يتخيل كل هذا الإنفاق والموسيقى تصدح، بينما تتراكم الديون كالسحب السوداء فوق مصر وبحلول ١٨٧٩، قفزت الديون إلى ١٠٠ مليون جنيه، بينما لم تكن تتجاوز الميزانية ٩ ملايين، فى تناقض يعكس الهاوية التى سقطت فيها البلاد وتحولت اللحظة التى كان يفترض أن تكون تتويجاً لعصر إسماعيل، إلى بداية نهايته، هذه الفقرة، بتفاصيلها الدقيقة، تلخص مأساة حاكم عثمانى طموح غرق فى بحر الديون تحت ضغط القوى الاستعمارية، ليترك مصر رهينة للنفوذ الأجنبى، تفاقم الوضع الاقتصادى والاجتماعى، مما أدى إلى ثورة أحمد عرابى عام ١٨٨١، التى سعت لاستعادة الكرامة الوطنية، لكن بريطانيا وفرنسا أجهضتاها، وانتهت باحتلال بريطانيا لمصر عام ١٨٨٢.

كانت ثورة عرابى بمثابة الموجة الأولى للحركة الوطنية المصرية، تلتها موجة ثانية بقيادة مصطفى كامل، التى اتسمت بالتنظيم السياسى المدنى، استمر حكم الأسرة العلوية تحت الاحتلال البريطانى حتى عهد الملك فاروق، فى عام ١٩٥٢، شهدت مصر غليانًا شعبيًا بعد مذبحة الإسماعيلية، تُوج بحريق القاهرة، الذى شمل أعمال نهب وقتل واحتراق ممتلكات على نطاق واسع، وما زال فاعله مجهولًا، كانت هذه الأحداث تمهيدًا لثورة يوليو ١٩٥٢، التى أنهت الملكية ورسخت لعهد جديد.