عندما تصبح فنًا داخليًا: الصوفية وفن القيادة المؤسساتية في “سفر إلى الذات”

عندما تصبح فنًا داخليًا: الصوفية وفن القيادة المؤسساتية في “سفر إلى الذات”

«القيادة ليست منصبًا.. بل أسلوب حياة».. بهذه الرؤية يُفتتح الكتاب، لا ليعلّمك كيف تدير مؤسسة، بل ليأخذك فى رحلة نحو ذاتك.

«رحلة مع النفس.. الصوفية وفن القيادة المؤسسية» هو محاولة هادئة لإعادة تعريف القيادة من الداخل، حيث تتقاطع التجربة الشخصية مع الفلسفة الصوفية، وتمتزج الحياة اليومية بروح التأمل، وتصبح المؤسسة ساحة للتزكية، لا مجرد الإنتاج.

يكتب الدكتور مصطفى إسماعيل سرهنكد هذا العمل بروح سالك الطريق لا المُنظّر من على بُعد، مستندًا إلى خبراته فى ريادة الأعمال، وذاكرته المشبعة بالتصوف منذ الطفولة، ومؤمنًا بأن القيادة الحقيقية لا تنبع من السيطرة، بل من الإصغاء، والرؤية، والتوازن بين الظاهر والباطن.

فى هذا العمل الصادر عن دار العين للنشر، يُقدّم الدكتور مصطفى إسماعيل سرهنكد رؤية متفرّدة للقيادة المؤسسية، مستندًا إلى مسار شخصى روحى وتجربة طويلة فى ريادة الأعمال. ومن خلال ترجمة دقيقة أنجزتها دينا المهدى، وتقديم أكاديمى من الدكتور شريف كامل، يتحوّل الكتاب إلى مرآة متعددة الأوجه تعكس صراع الإنسان بين الانضباط الداخلى ومتطلبات السوق، بين البوصلة الأخلاقية وضغوط النتائج، بين منطق المؤسسة ومنطق القلب.

غلاف الكتاب

ينقسم الكتاب إلى فصول تتبع مسارًا سرديًا وتحليليًا يبدأ من التجربة الذاتية وينتهى بنموذج عملى للقيادة الصوفية المؤسسية. الفصل الأول يكشف عن النشأة الروحية للمؤلف، حيث شكلت طفولته المغمورة بالطقوس والممارسات الدينية نواةً أولى لوعيه الذاتى والقيادى. من اللعب بحبات السبحة فى حضرة المربية، إلى مراقبة الدرويش الذى يدور بصمتٍ فى أحد أركان الغرفة، تبدأ شرارة التصوف فى التكوّن داخله. غير أن هذا المسار لم يكن خطيًا أو سهلًا، بل مرّ بلحظات عنف وضياع، وتمرد على كل ما هو دينى، قبل أن يعود من تلك الرحلة المضطربة إلى حالة من التوازن عبر الحب والارتباط والاستبطان.

تدريجيًا، يُصاغ نموذج «القيادة الصوفية المؤسسية» كنتيجة لهذه الرحلة، حيث يصبح القائد هو من يراقب نفسه أولًا، ويتأمل أثر قراراته، ويفهم أن القيادة ليست فقط فن التأثير، بل أيضًا مسؤولية وجودية. فالتصوف، فى جوهره، هو السير نحو الحقيقة الداخلية، والقيادة فى هذا السياق ليست إلا تجلٍّ من تجليات هذا السعى.

من ميكياڤيلى إلى المتصوفة

يبدأ الكتاب بفصل شخصى مؤثر، يكشف فيه الكاتب عن تحولات جذرية فى حياته، كان محورها لحظة روحانية نادرة جعلته يرى أن القيادة لا تُمارَس، بل تُعاش. لا تُفرَض، بل تُستمد من الداخل. من طفل صغير يقلد مربية تتلو الأذكار أمام ضريح ولىّ، إلى رجل أعمال صاعد يغوص فى البوهيمية ويخرج منها على يد امرأة أحبها، ثم قائد نضجت رؤيته للناس وللحياة.. تتشكل قصة الكتاب.

وهنا تبرز قيمة هذا العمل، ليس فقط كطرح معرفى جديد، ولكن كسيرة ذاتية روحية ومهنية تقود القارئ من الداخل أيضًا. نحن أمام ما يمكن تسميته بـ«التصوف الإدارى»، أو «القيادة بوصفها رحلة داخلية»، وهى مفاهيم تكاد تغيب تمامًا عن أدبيات الإدارة العربية.

مؤسسة على الطريقة الصوفية؟

فى فصوله التالية، ينتقل الكتاب من التأمل الذاتى إلى بناء إطار نظرى. فيُقدِّم ملامح «القيادة الصوفية المؤسسية»، حيث تتجسد القيم الإسلامية – بتفسيرها الإنسانى والعالمى – فى كل مستويات الإدارة. يتوقف سرهنكد طويلًا أمام أركان الإسلام، ويُسقطها على المؤسسة الحديثة: الصلاة كتوازن وتنظيم، الزكاة كمشاركة وتكافل، الصيام كزهد وتركيز، والحج كرحلة جماعية نحو هدف أعلى.

إنه يطرح منظومة قيادية، حيث يُعاد تعريف مفاهيم مثل السلطة، والإدارة، والقرار، فى ضوء مفردات مثل «السكينة»، و«التوكل»، و«الورع»، و«النية». هذه ليست استعارات بل أدوات. وليست دعوات أخلاقية مجردة، بل نتائج قابلة للقياس، يعززها بأمثلة من شركات ومؤسسات حقيقية تعامل فيها الأفراد بثقة وشفافية وكرامة، فانعكس ذلك على الأداء والإنتاجية والانتماء.

بين الشريعة والطاو والبوذية

واحدة من النقاط القوية التى يتميز بها الكتاب هى وعيه التعددى. فبالرغم من جذوره الإسلامية، لا يمانع سرهنكد فى الاعتراف بتأثيرات الروحانيات الشرقية – من البوذية والطاو إلى الحكمة الهندية – على تطور التصوف الإسلامى. هذه المقارنة لا تنقص من «إسلامية» النموذج، بل تعمقه وتفتحه على الإنسانية بأسرها. القيادة، كما يرى، ليست دينًا أو ثقافة، بل حالة من الصدق مع الذات والآخرين.

يخصّص المؤلف فصلًا كاملًا للحديث عن «الحاجة إلى قيادة إسلامية من منظور مؤسسى»، مستعرضًا فيه كيف يمكن لأركان الإسلام – من صلاة وزكاة وصوم – أن تشكّل بنية أخلاقية وروحية فى العمل، لا كطقوس، بل كقيم عملية: الإصغاء، العدل، التواضع، وضبط النفس. وهو لا يكتفى بالتنظير، بل يسوق أمثلة حيّة من مؤسسات تعامل فيها الموظفون مع قادتهم من منطلق إنسانى، ووجدوا فيهم احتواءً واحترامًا وشعورًا بالأمان، مما خلق بيئة إنتاجية أقرب إلى السكينة منها إلى الصراع.

اللافت فى الكتاب أنه لا يسعى إلى «أسلمة» الإدارة أو إعادة تغليف المفاهيم الغربية بصبغة شرقية، بل يطرح بديلًا فكريًا وجماليًا كاملًا، لا يرى تعارضًا بين القيادة والروح، ولا يفصل بين الداخل والخارج. وهو بذلك لا يخاطب فقط المديرين أو التنفيذيين، بل أى إنسان يمرّ بتجربة قيادة – لفريق، أو لفكرة، أو حتى لحياته الخاصة.

«رحلة مع النفس» ليس مجرد كتاب فى القيادة، بل محاولة للنجاة من البُعد الواحد، من الأنا التى تسيطر وتُقرر وتُحاسب، نحو «ذات» تستمع، تُصغى، وتتحول. هو كتاب يذكّرنا بأن المؤسسات لا تُبنى فقط على الخطط والاستراتيجيات، بل أيضًا على النوايا، والمواقف الدقيقة، والرحمة الخفية فى التفاصيل.

رسالة إلى كل قائد

يُشبه هذا الكتاب جلسة خلوة مع مرشد روحى، أكثر من كونه مرجعًا إداريًا. هو دعوة لتهذيب النفس، لأن النفس هى أداة القيادة الأهم. وهو أيضًا نداء لكل من يشغل موقع تأثير، أن يعيد النظر فى دوافعه، فى أسلوبه، فى علاقته بالناس، وفى أثره فيهم.

هل يقودهم بالخوف؟

أم يلهمهم بالحُب؟

هل يجعلهم يعملون تحت سلطته؟

أم يعملون معه نحو غاية أسمى؟