نجعل الموت جميلاً كما نجمل الحياة: قصة قصيرة لــ نجيّا محمود

ركبتُ الكارة، وكان الحمار يلهث من التعب، كأنه لم يذق طعامًا منذ زمن. جلستُ، أُعدّل فى جسدى المرهق، وأهمس لنفسى: «ميت إكلينك يا زمن»
بعدى بقليل صعدت فتاة. رأيتها من قبل، لكنى لا أذكر أين. حدّقت بى، وكأنها تعرفنى جيدًا. كانت نظرتها تحمل شيئًا مألوفًا، كأنها امتداد لما أفكر فيه دومًا. فجأة جاء الحديث بيننا دون سابق إنذار.
– «أنتِ من رفح؟»
– «أجل. وأنتِ؟»
– «صحيح..»
ابتسمنا، وابتسمت قلوبنا قبل وجوهنا. قلت لها:
– «أنا نُجيا، أو نوجا»
فردّت:
– «أعرفك جيدًا. كنا معًا فى نفس المدرسة. لكننى آسفة، لم أكن أحبك يومًا يا نُجيا. كنتِ مغرورة، لا «تتحدثين إلا مع صديقاتك»
ضحكتُ، قلت لها بهدوء:
– «لا بأس»
أكملت حديثها:
– «لكننى رأيت نصًا لكِ على فيسبوك، عرفتُك من الأصدقاء المشتركين. كان يشبهنى حد التطابق. نفس الأفكار، نفس الجنون»
ضحكتُ مرة أخرى، وسألتها:
– «أى نص؟»
قالت:
– «حرق المدينة، وثوب الصلاة، والخوف من أن يصفوك بالمجنون»
أردت أن أفتح معها حديثًا أعمق، ألا أبدو بخيلة بابتساماتى فقط. فقلت لها:
– «منذ فترة، تخطر لى أفكار أكثر جنونًا. فكرة الموت، لكنها تأتينى بشكل مختلف، متقلّب، غير مألوف
كانت فتيات الكارة يسمعننا من الغرفة الخلفية. أصغين، كأن الحديث مرآتهن».
تابعت همسى:
– «صرتُ أهتمّ بى أكثر. لا أرتدى ثوب الصلاة كثيرًا، أختار أجمل ما عندى من الملابس، أضع قليلًا من الروج بعد العمل… فقط لأرحل جميلة، بكامل أناقتى».
فقالت فتاة من الخلف، لا أعرفها لكنّ صوتها حمل الألفة:
– «والله وأنا كمان بعمل هيك… كل شوى بغيّر أوعيى، وأمى بتزعل وبتحكيلى فش مى للغسيل. بس بحكيلها: بدى أموت حلوة».
ضحكنا. وتبادلنا الكلمات والاعترافات كما تتبادل الروح أنفاسها الأخيرة قبل أن ترتاح.
اشتركت كل فتيات الكارة فى الفكرة، بل فى الحلم، فى التقبّل، وكأن الموت صار صديقًا نزيّنه لنا ولغيرنا.
حتى سائق الكارة، والرجل العجوز الجالس قربه، نظر إلينا طويلًا وقال بنصف ابتسامة ونصف حزن:
– «حتى وهنّ بالموت.. البنات، بنات».
اليوم، فتيات غزّة يتزيّن للموت. يهتممن بأدق تفاصيلهن، لا لعرض ولا لمرآة، بل لأنّ الرحيل بات أقرب من الحياة. يسعين أن يكنّ أناثًا، بكامل أناقتهن، حتى فى الموت.