محمد عطوة يكتب: في رواية «المزاحمية».. قصة وطن لا يعرف الاستسلام

التورط منذ الصفحة الأولى، هو الشعور الذى يستولى عليك عند البدء فى قراءة رواية المزاحمية لكاتبها المثقف النوعى سمير الأمير. هذا التورط المحمود عند القارىء والكاتب معًا لم يتأتَّ من قبيل الصدفة، ولا حسن استهلال للرواية فقط مع أنها ميزة، إنما هى طبيعة الكاتب التى ورثها عن أمٍ حكاءةٍ بنت بيتا مثقفا ومتعلما وصاحب وجهة نظر، وأبٍ يمتلك تاريخًا من الحكى، لهذا فإن الدخول من أعلى ورطة كبيرة إذا كان الداخل مُرتجِلًا، أو غير واعٍ أنه يغامر؛ فإما استواء على مدرج الهبوط، أو الخروج خاسرًا.
لم يسعَ سمير الأمير هنا لمهادنة القارئ، أو تنويمه مغناطيسيًّا كى يناوله الدواء المُر فى كأس براقةٍ؛ إنما دلف من الباب الوسيع معلنًا منذ الكلمات الأولى عن بطاقة هوية البطل على المالكى فى شبه تعاقد مع القارئ. هذا البطل صاحب رؤية وموقف من الحياة والوجود وفلسفة التعايش، كما له توجه نوعى قد يعتبره البعض نقيصة، خاصة بعد تشويه حقبة تاريخية لمصر عن عمد وهى الحقبة الاشتراكية. لهذا فاستمرارية القارئ فى الدخول إلى متن النص هو ولوج فى عمق هذا المجتمع من خلال وعى تام بقضاياه، همومه، تاريخه، هزائمه وانكساراته، رغبات أبنائه المتضاربة بين الذاتى والجمعى فى إفاقةٍ تعيد إليه اتزانه.
بعد اكتشاف هذا التوجه الاشتراكى، لا يمكنك التراجع، ربما يدور فى عقلك كما دار فى عقل على المالكى، بطل الرواية، أن تحاجج الكاتب وأبطاله، وتتبادل معهم النقاش حول المرجعيات ما بين التدين والتشدد والابتذال، أو بين الوطنى المعتز بمصريته والقومى العروبى. المصارحة كانت طريق سمير الأمير للدخول من أعلى.
سمير الأمير
وشم السيرة الذاتية
ليست سيرة ذاتية للكاتب. لأننا لو تعاملنا مع هذا النص الإبداعى على أنه مجرد سيرة، فإننا نحجم الرواية التى برع صاحبها فى استقراء خبايا المجتمع ليس المصرى؛ وإنما الخليجى متمثلًا فى السعودى مع التحفظ على الفروق الحضارية بين البيئات المختلفة. لم تبدأ بتاريخ ميلاد البطل وكيفية نشأته، إنما هى تسليط الضوء على حقبة تاريخية بدأت فى سبعينيات القرن الماضى وانتهت بالرواية فى بدايات القرن الواحد والعشرين. إذن نحن لسنا بصدد سيرة ذاتية لشخص إنما شريحة زمكانية تم وصف أحداثها بعين الكاتب على لسان بطله على المالكى، وترك التأويل والتفسير والاستنتاج لقارئه.
قد يختلف معى أحد ويقول إنها فى الأقل تسجيل لأحداث وتجارب بعينها، عاشها الكاتب وخبر نتائجها، فأشد على يديه قائلًا: أحسنت يا سيدى، لكن دعنى أتساءل أيضًا متى لم يكن السرد سيرة ذاتية لأبطال الأعمال السردية؛ سواء كانت محكيًّا شعبيًا: كَسِيرِ الأولين؛ أبوزيد الهلالى والجازية وحسن، ودياب وصولًا إلى أدهم الشرقاوى. ألم نسمع ونقرأ سيرهم الذاتية فى شكل حكاية سردية؟، ألم تقدم لنا الكتب السماوية سيرًا ذاتية للأنبياء والرسل من عند آدم إلى محمد عليه السلام وبينهما نوح ويعقوب وزكريا ومريم وقارون وموسى وعيسى ويوسف والعبد الصالح؟، ألَمْ تعرف حكايات الأقوام السابقين، الأنبياء، والرسل من خلال الحكى عن سيرهم الذاتية والمجتمعية؟، ما أقصد قوله هنا: إن سيرة على المالكى، وإن اتفق البعض على أنها سيرة ذاتية لسمير الأمير وتوثيق لتوجهاته الشعبوية الناصرية، فلا ضير أبدًا.
الوعى بأثر المحكى عنه
السؤال الأكثر أهمية هل تركت هذه الرواية أثرًا؟ هل ورطك سمير الأمير فى الدخول مع على المالكى حجرة المقابلات وحيرك حيرته فى كيفية الإجابة عن الأسئلة المخادعة؟ هل فرحت معه حين أعمل عقله بحصافة ولعب مع من أجرى معه المقابلة لعبة أجازت له التعاقد؟ هل حزنت مع على المالكى، وبكيت بكاءه الحار وهو لا يعرف كيف يطمئن على أهله وزوجته وابنه وقت حدوث الزلزال؟، هل ابتسمت معه وهو يحاجج أبوحسين شريكه فى السكن ويجبره دون إجبارٍ على أن يغسل المواعين؟ هل استشعرت الحرج وأنت ترى رجلًا محسوبًا على اليسار فى مصر، يتحول إلى مطوع وإمام لصلوات منها الفجر فى السعودية؟ إذا وصلك الأثر، فقد خرجت الرواية من عباءة الذاتية إلى اتساع رقعة المجتمعية، وتم توريطك بوعى فى أحداثها.
غلاف الكتاب
هذه الرواية هى سيرة ذاتية للمجتمع المصرى بعد أن خرج من سنين الظلم والاستعباد والسخرة أيام الملكية، إلى رحابة الفضاء والقدرة على التنفس بعد ثورة يوليو بكل حِراكاتها التى أفرزت أفضل ما فى الشعب، وأسوأ ما فى النخبة الحاكمة إلى جوار عبدالناصر، أو ما سُمِّى وقتها بمراكز القوى، ثم رصدت التحولات الاقتصادية والفكرية والدينية التى حولت الناس إلى تجار، والعادات والتقاليد إلى دين، ثم رصد آخر لتحول الشعب المصرى كله، من مُستضيفٍ لكل العرب إلى مُستضَاف عامل، ولك أن تتخيل مدى ما يمكن أن يتركه هذا التحول الخطير فى حياة المجتمع المصرى من أثر. استطاع الكاتب التعبير عن هذه التحولات من خلال سرد مواقف على المالكى مع أبناء بلده من المتعاقدين فى مواقف متعددة، أهمها موقفهم من حديث أبو ناصر عن الحرب، وسكوتهم عما افترى به. وفى شخصية شعبان، يمكنك تتبع كل تحولات المجتمع المصرى.
الراوى الذاتى وكيل المروى عنهم
السارد هنا فى رواية المزاحمية هو الراوى بضمير الأنا، ووكيل عام الشخصيات فقد خرجت كلها من عباءته هو وإن كان محايدًا، إلا أنه لم يترك للشخصيات الأخرى حرية الحركة إلا فيما سمح هو لهم به من خلال تداخل معه فى حدث، أو اشتراك معه فى حوار. لا يكتفى السارد / الراوى بالوكالة بالكشف عن جذور الشخصيات ولا مسببات الأحداث من وجهة نظره هو، إنما يهدف إلى كشف وتعرية من أوصلوا المجتمع إلى ما وصل إليه من زيف تسَيُّد الشكل على حساب تنحى المتن؛ بالكشف عن بيئات الشخصيات وتكييف الأحداث زمانيا ومكانيا من خلال لغة سرد بسيطة عميقة جعلت من الوصف لوحات تبدو تقليدية الشكل، لكنها عبثية المضمون. يحدث هذا من خلال استخدام الجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة وأساليب الاستفهام والإنشاء والتعجب فى دمج غير مقصود، إنما نابع من طبيعة السارد نفسها، فالرجل شاعر يكتب العامية المصرية مستندًا إلى حائط بديع خيرى والشيخ إمام ونجم وفؤاد حداد، لهذا فان الوصف هنا يعطى للأحداث قيمتها ودلالتها. ومن أهم الدلالات:
– حقل الدينامية الحركية
الصورة، والجملة والكلمة على امتداد صفحات الرواية فى حالة حركة دائمة. الكلمات حية، الجمل نشطة، والحوارات فى حالة تنامى وتطور دائم، إن لم يكن على مستوى الانتقال من مكان إلى آخر عن طريق التداعى الحر فى غالب أحداث الرواية، أو تيار الوعى فى حالات أقل؛ فبينما يكون جوهر الحدث فى السعودية، ينتقل بنا السارد إلى المنصورة، أو السفارة المصرية، أو زمام المالكية بالشرقية ليس فقط عن طريق تيار وعى البطل على المالكى، إنما بتبنى تيارات وعى آخرين مثل صديقه فى الغرفة أبوحسين ممثل وجه قبلى الذى يستدعى زوجته ومذاق أكلها الذى لا يُضاهى، وشعبان الذى جاء من ليبييا إلى السعودية فى وقت قياسى، والدكتور كريم خال البطل، والميكانيكى الوطنى السويسى الذى عانى التهجير بعد النكسة، والاغتراب بعد انتصار ٧٣.
الرواية حافلة بالمشاهد المحكية بلغة بسيطة وغير معاظلة مما جعل القارئ يتورط ليس فقط مع البطل متماهيًا معه، ومتحركًا مع كاميرته شديدة الملاحظة فى تسليط الضوء الساطع على الأماكن وذكر تفاصيلها بدقة حتى أنك كقارئ تتخيل شكل الطريق إلى المزاحمية، أثاث بيت الصديق الذى أستقبله، وطبيعة المجتمع المصرى فى الخليج، حيث يتحول إلى متحفظ، بل ومتشدد أحيانًا.
لا يمكنك الانتهاء من رواية المزاحمية دون أن تشيد باللغة المحكية القريبة جدًا من لغة الشارع؛ فالكاتب استخدم لغة حكى وليس لغة رواية، وهناك فرق بينهما دون شك؛ فلغة الحكى أقرب إلى المحكى الشعبى من بساطة عرض المحتوى، وأمثال شعبية، وخفة ظل تستشعرها فى مواطن متعددة من الرواية. برع سمير الأمير فى اجتذاب القارئ بقدرة فائقة على تضفير اللغة العربية باللهجة المصرية باللهجة الخليجية البدوية فى غالبها، وقد ساعدته أصوله البدوية فى استخدام اللهجة البدوية وتوظيفها بشكل ملفت. هنا يمكننا القول إن لغة سمير هى لغة التعبير عن المحكى المرتبط بالإنسان فى الأماكن التى تحركت فيها الأحداث، لا لغة الرواية التى تنتصر للمجازات والدلالات الرمزية وإن لم تخلُ أبدًا حوارات الرواية وسردها من الترميز، أو الإشارات الدالة.
رغم بساطة اللغة، وتدفق الحكى، وانخراط السارد وروايته فى قاموس المحكى الشعبى، إلا أنه لم يسقط فى مستنقع المباشرة. حافضت الرواية على رمزية الدلالات منذ بدايتها القوية إلى نهايتها المتوقعة.