تمويل صناعة النفط: دروس من الماضي وتحديات المستقبل – هل نكرر تجربة 2005؟

تدور في الأروقة المغلقة هذه الأيام نقاشات واقتراحات حساسة تتعلق بتدبير تمويل ضروري لتنمية عمليات قطاع البترول وتلبية احتياجات الدولة الاستراتيجية من الطاقة. ورغم أهمية الهدف، إلا أن بعض هذه الطروحات تلامس خطوطًا حمراء، بل وتنحرف إلى مناطق محفوفة بالمخاطر، مثل اقتراح رهن احتياطي الدولة من النفط والغاز الطبيعي – وهو خيار قد يبدو مغريًا لحظيًا، لكنه يحمل في طياته تداعيات جسيمة على الأمن القومي والاقتصاد والأجيال القادمة.
وفي خضم هذه النقاشات، تبرز تجربة تمويلية فريدة وناجحة نفذها قطاع البترول عام 2005،في عهد المهندس سامح فهمي، لا تزال حتى اليوم تُعد من أنجح وأذكى أدوات التمويل التي لجأ إليها القطاع في تاريخه الحديث، دون المساس بمقدرات الدولة أو رهن احتياطياتها.
تجربة 2005: تمويل ذكي بضمان التدفقات وليس الأصول
في عام 2005، واجه قطاع البترول تحديات مالية معقدة استدعت حلولًا مبتكرة لتوفير السيولة اللازمة دون الوقوع في فخ الديون المباشرة أو التنازل عن الأصول. جاءت المبادرة بإنشاء شركة تمويل خاصة (SPV)، تم من خلالها توريق التدفقات المستقبلية لبيع كميات محددة من الزيت الخام من حقول غارب وكميات من النافتا على مدار خمس سنوات.
تم التعاقد مع مؤسسة “مورجان ستانلي” العالمية لتتولى الإشراف على العملية، وجرى إصدار سندات دولية بضمان عقود تصدير البترول من الهيئة، وليس بضمان المخزون أو الاحتياطي . وباستخدام أدوات مالية مثل التحوط (Hedging) لحماية الصفقة من تقلبات الأسعار، تم الاتفاق على سعر تقديري للبرميل عند 30 دولارًا، بينما بلغت تكلفة التحوط والخدمات نحو 3 دولارات إضافية.
وكانت النتيجة أن الهيئة حصلت على تمويل مقداره 1.5 مليار دولار دفعة واحدة، واستفادت لاحقًا من ارتفاع أسعار البترول إلى ما يفوق 80 و90 دولارًا للبرميل، حيث تم إيداع فارق الأسعار في حساب خارجي خاص بالهيئة، ما مكنها من الحصول على تمويلات إضافية ساعدت في تجاوز أزمات مالية آنية دون تحميل الدولة أعباء أو مخاطر مستقبلية.
الفرق بين التمويل بضمان التدفقات والتمويل برهن الاحتياطيات .
ما يجب التنبه له هو الفرق الجوهري بين ما حدث في 2005 وما يُطرح اليوم من أفكار:
•في 2005، تم التمويل بضمان منتج فعلي يتم تصديره بالفعل، وهو ما يُعرف بتمويل التدفقات النقدية المستقبلية.
•أما رهن احتياطي الدولة من المواد الخام – الذي لم يُستخرج بعد – فهو تمويل مقابل مورد غير محقق وغير مضمون، ما يجعله أقرب إلى رهن ثروة وطنية لم تُنتج بعد، وهي مخاطرة تماثل رهن المستقبل نفسه.
والأسوأ من ذلك أن هذه الاحتياطيات لا تخضع فقط للتقلبات السوقية، بل للتقلبات الجيولوجية والتجارية والفنية أيضًا. وتؤكد الدراسات الجيولوجية وجود النفط، لكن عمليات الإنتاج قد تُثبت عكس ذلك، أو تُظهر أن الكميات غير اقتصادية، مما يجعل الرهن مخاطرة لا تُغتفر.
⸻
هل يمكن تطبيق تجربة 2005 اليوم؟
الإجابة: نعم، ولكن بشروط.
يمكن تكرار تجربة 2005 بنجاح في الوقت الحالي، ولكن من خلال:
1. ربط التمويل بتعاقدات تصديرية فعلية لكميات يمكن للهيئة إنتاجها وتصديرها فورًا.
2. استخدام أدوات التحوط لحماية الأسعار، وتفادي خسائر السوق.
3. إشراف مؤسسة مالية دولية ذات مصداقية لإدارة العملية وتعزيز ثقة المستثمرين.
4. الشفافية الكاملة والإفصاح عن كل تفاصيل العملية، لتأكيد عدم المساس بالاحتياطيات الاستراتيجية.
هذه الأدوات متاحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، والتكنولوجيا والتحول الرقمي في القطاع يسمحان بإدارة أكثر دقة للتدفقات النقدية والمخاطر.
⸻
إن التجربة التاريخية لقطاع البترول في 2005 تمثل نموذجًا للتمويل المسؤول والذكي، والذي يجب البناء عليه وليس تجاوزه نحو سياسات قد ترهن ثروات الشعب وتترك الأجيال القادمة تحت وطأة قرارات صعبة.
التحديات كبيرة، نعم، ولكن الحلول الذكية موجودة، والإرادة الوطنية يجب أن تكون هي المعيار الوحيد في رسم سياسات تمويل قطاع الطاقة الحيوي في مصر .
#المستقبل_البترولي