أيمن حسين يكتب: مُدّعي المهارات المتعددة.

يقول المثل الشعبي: “صاحب بالين كذّاب، وصاحب ثلاثة منافق.”
قد تبدو العبارة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل في طيّاتها معنى عميقًا يُعبّر عن أحد أهم أسرار النجاح في أي جانب من جوانب الحياة بشكل عام، وبالقطع في مجالات العمل بشكل خاص، ألا وهو: التركيز.
ولا يبدو أن استخدام صفات مثل “الكذب” أو “النفاق” في هذا المثل الشعبي القديم مقصود به المعنى الأخلاقي المباشر لهذه الصفات، بل هو تعبير مجازي عن حالة من التشتت والتداخل التي يواجهها من يحاول أن يقوم بعدة أدوار في وقت واحد.
فربما بعض هؤلاء من أصحاب الرغبة القوية في الاستحواذ على مناصب متعددة، تكون لديهم نية صادقة في المساعدة الحقيقية وتحقيق نتائج جيدة، أو ربما يشعرون أنهم قادرون فعلًا على التركيز في أكثر من مجال مختلف في الوقت نفسه، اعتمادًا على ثقتهم بأنفسهم وإدراكهم أنهم يملكون من المواهب والمهارات العملية ما يؤهلهم لذلك، وليس من باب الكذب أو النفاق كما يشير ظاهر هذا المثل.
لكن الأيام وحدها، والمواقف العملية، هي التي تجيب على هذا السؤال:
هل كان لدى هذا الإنسان طموح واقعي، أم هو شخص مشتت وقع في فخ الطمع دون أن يقصد؟
فالإنسان حين يُوزّع اهتمامه بين أكثر من اتجاه مختلف الطبيعة، ويُشتّت جهده في مهام متعددة، وربما منها مجالات جديدة عليه لم يمارسها من قبل، فمن الطبيعي أن يفقد القدرة على الإتقان التام لتلك الأعمال الجديدة، حتى وإن كان يملك الكفاءة.
ليس لأن الإمكانيات غير موجودة، بل لأن الذهن لا يستطيع أن يمنح نفس القدر من التركيز والاهتمام والإتقان لأكثر من مجال في الوقت نفسه، وخصوصًا ونحن نتحدث هنا عن مجالات مختلفة، ومنها ما هو جديد عليه كما ذكرنا، فبالتالي لن يؤديها بنفس كفاءة أصحاب هذا التخصص من ذوي الخبرة المتراكمة فيه، والمتمرسين عليه، والذين لهم باع يسمح لهم بممارسته أفضل منه بكثير.
ولكن في زمن تتسارع فيه المسؤوليات وتتزاحم فيه الأدوار، أصبح البعض يظن أن النجاح يُقاس بعدد المهام التي يتولاها، أو بعدد المناصب التي يشغلها.
لكن الحقيقة أن التخصص هو أساس التميز، وأن من يُتقن عملًا واحدًا بإخلاص، خيرٌ ممن يقوم بعشرة أدوار ولا ينجح في أي منها. وحتى لو نجح في بعضها، فبالقطع سيكون نجاحًا نسبيًا، ربما لا يوازي ما هو مطلوب في هذا المجال، فبالتالي هذه النسبة تجعله لا يُقدم النتيجة المرجوة منه في هذه الأعمال.
ليس عيبًا أن يكون الإنسان صاحب طموح كبير، بل في حقيقة الأمر أن الطموح هو المحرك الأساسي للتطور والنجاح وتقديم شيء ذي قيمة مميزة ومفيدة ومختلفة.
لكن الطموح لا يعني أن يحمل الإنسان فوق طاقته، ولا أن يظهر في كل مشهد، أو يتصدر كل ملف. فهناك فارق كبير بين الطموح والطمع.
الاحتراف يبدأ من معرفة حدود الذات، وفهم طبيعة الدور الذي تقوم به بمنتهى الدقة، والإيمان بأن النجاح الجماعي لا يأتي من فرد واحد يُجيد كل شيء، بل من منظومة يعمل فيها كل شخص في مجاله وتخصصه بإخلاص.
فالمؤسسات الكبرى لا تُبنى على تعدد أدوار شخص واحد، مهما كانت كفاءته أو موهبته أو ذكاؤه، بل هي تقوم على التكامل بين المتخصصين والمميزين، كلٌّ في مجاله، الذي يفهمه ويتقنه جيدًا، ويمارسه بحرفية لا باجتهاد المبتدئين.
فمهما بلغ الإنسان من ذكاء وخبرة، لن يستطيع أن يفهم كل شيء أفضل من الجميع.
والذي يسعى للسيطرة على كل شيء، حتمًا سيتورّط دون أن يشعر في فوضى تنظيمية، لا نظامًا فعالًا، ولا عملًا مكتملًا، ولن يصل إلى ما هو مطلوب منه في كل مجال كما هو مقرر له، بل بالعكس: سيخسر كل شيء.
فكلمة أقولها وبمنتهى الأمانة: إن الشخص الذي يبحث عن الأضواء في كل اتجاه، لن يترك أثرًا حقيقيًا في أي اتجاه، ولن يجد فيها الأضواء، بل ربما تكون هي نقطة ضعفه في مسيرته العملية، وتنال من رصيده الكثير، وربما تؤدي إلى سقوطه سقوطًا مدويًا.
التركيز هو ما يصنع الفارق، فالشخص الذي يركز في تخصصه، ويعمل بإخلاص، ويترك المجالات الأخرى لأصحابها، يُحقق أثرًا حقيقيًا ويبني سمعة مهنية تدوم.
بل إن من يمنح الفرصة لغيره من المميزين أصحاب الخبرة الحقيقية، يكون قد شارك في نجاح جماعي ينعكس عليه هو نفسه.
هذا الكلام لا يُعد نقدًا للأشخاص من هذا النوع فحسب، بل هو من دافع الواجب الذي يُفرض على الكُتّاب والمثقفين، وهو تسليط الضوء على أي ظاهرة سلبية منتشرة يتم رصدها، وتستحق التوقف عندها والإشارة إليها، وإلى ما تُسببه أحيانًا من سوء أداء أو إخفاق، ولو حتى كان هذا الإخفاق بنسبة ليست كبيرة، لكنها قد تكون مؤثرة بشكل أو بآخر.
وربما هي رسالة تنبيه لبعض هؤلاء الأشخاص الذين أخذتهم زهوة المناصب، وغرّتهم ثقتهم في أنفسهم، وكانت هذه الرسالة سببًا في أن يُراجعوا أنفسهم. فمن يدري؟
ربما غيّرت شيئًا في أفكارهم يجعلهم يُصوّبون الطريق.
وربما هي نصيحة صادقة من القلب، للفت انتباه كل من تورّط دون قصد، وبنيّة سليمة، في هذا الفخ المغري جدًا.
لذلك عليك بالتركيز في مجال تخصصك، لأنه السبيل الوحيد للإتقان، والابتعاد عن فخ الطمع في المناصب والمسؤوليات، وتصدُّر كل المشاهد، وتفادي طريق الفشل.
ولابد من الإيمان بقيمة العمل الجماعي، وأن المؤسسات لا تُبنى على فرد بل على فريق كامل.
لذلك أهمس في أذنك وأقول لك:
اعمل ما تُجيد، ودع غيرك يُجيد ما لا تُجيده أنت.
الكاتب والشاعر / أيمن حسين
مدير عام الإعلام – جهاز تنظيم أنشطة سوق الغاز