أيمن حسين يكتب: من يمتلك الاستغناء يصبح مالكًا

أيمن حسين يكتب: من يمتلك الاستغناء يصبح مالكًا

يخاف الناس عادةً من الفقد، فيتعلّقون…
يتعلّقون بأشخاص، بأماكن، بوظائف أو مناصب، بعلاقات، بأحلام مؤجلة، بأشياء ربما لم تأتِ أبدًا.لكن لا أحد يخبرهم أن التعلّق ليس حبًا دائمًا، حتى وإن أحببت ما تتعلق به، بل هو قيد… قيد يدمي قلبك قبل معصمك.

في داخل كل إنسان نار مشتعلة، نار لا يراها أحد، لا يشعر لهيبها غيره، إنها نار التعلق، نار الانتظار،نار الاحتياج.

النفس تحترق عندما تنتظر الاعتذار من شخص لا ينوي أن يعتذر، عندما تتوقع الاحتواء من قلب مشغول عنك، عندما تربط سعادتك بكلمة، أو شخص، أو نتيجة، أو حتى مجدٍ زائل.

سُئل شمس التبريزي ذات يوم: “متى تبرد نار النفس؟” فقال: تبرد إذا رضيت، إذا سلّمت، إذا أدركت أن كل ما تطلبه من الناس لا يشفيك،تبرد حين لا تطلب من أحد شيئًا، وحين تسكن إلى الله لا إلى غيره.”

الاستغناء ليس أن تُبعد فقط، بل أن تفهم، أن تُدرك أن ما تنتظره لا يأتي، أو يأتي ناقصًا، أو يأتي مجاملة لا رغبة.
حينها لا تغضب… بل تفهم، وتبتعد بصمت.

نفهم أن التقدير لا يُنتزع، والفرص لا تُشحت، والكرامة لا مساومة فيها.

الاستغناء فعل واع، لا كسر، ولا هروب، ولا انتقام.هو قرارك بأنك لم تعد رهينة لما لا يناسبك، ولا لما يستنزفك ولا يُشبهك.

قد ننتظر ترقية، أو منصبًا، أو حتى لفتة بسيطة، أو نظرة احتواء…
لكننا ننسى أن الانتظار نفسه عبء كبير على النفس ،وأن الاستغناء أحيانًا لا يعني أننا لا نريد،بل لأننا نريد بكل جوارحنا وقناعاتنا.

النفس لا تبرد بكثرة الأخذ، بل بكثرة الاستغناء.لا تبرد حين تنال ما تريد، بل حين تتجاوز ما كانت تريده.
كلما زاد وعيك، قلت حاجتك، وكلما قلت حاجتك، زاد سلامك، وكلما زاد سلامك، اقتربت من “الملك” الحقيقي، كما قيل عنه:  “من استغنى، ملك”

قد نجد أنفسنا في عمق شيء لا يُشبهنا، لكننا نستمر فقط لأننا “بدأنا”.
فالاستغناء لا يكون بعد الانهيار، بل قبله.
هو أن تقول بثبات:
“هذا لا يُشبهني… وسأتراجع وأنا ما زلت قادرًا على النهوض.”

التطور لا يعني فقط أن تضيف، بل أن تُنقّي،فكل مرحلة تتطلب أن تترك شيئًا ما:فكرة، شخصًا أراد الرحيل بإرادته، أسلوبًا اعتادته ، حلم راودك لسنوات ، أو حتى طموحًا لم يعد يُشبهك في هذه اللحظة.

الحرية الحقيقية ليست أن تفعل ما تشاء، بل أن تختار ما لا يُؤذيك.

في اللحظة التي تقول فيها من قلبك:
“رضيت… بما كتب الله، وبمن أبقى، وبمن أخذ، وبما تأخر، وبما لم يحدث.”
ستشعر بنسيم داخلي لا يُوصف، يُطفئ النار ويحوّل اللهيب إلى نور.

الاستغناء ليس ضعفًا، بل قوة ناعمة.
أن تبتعد دون ضجيج، أن تترك دون انتقام، أن تتراجع دون تبرير، أن لا تسعى لإقناع من لا يرى قيمتك، بل تكتفي بأنك ترى أنت نفسك بوضوح.

الاستغناء فنٌّ لا يستطيع أن يُمارسه الجميع، وليس كل انسحاب نُضجًا، فبعضهم يهرب ويسميه استغناء…
لكن الاستغناء الحقيقي لا يأتي إلا بعد محاولات صادقة، ورغبة حقيقية في الإصلاح، وبذلٍ حقيقي للبقاء، وتمسك بضمير وحتى الرمق الاخير.

حينها فقط، يصبح التخلي شجاعة لا هروب، قرار ناضج لا رد فعل غاضب، فعل إيمان لا قنوط.

فكل مرة نستغني فيها عن شيء بوعي، نقترب أكثر من أنفسنا ونرى الحياة بنظرة أنقى وأعمق.

وأخيراً الاستغناء لا يُعلَّم في الكتب، بل تدركه في اللحظات التي تختار أن تكون فيها هذا الانسان الراض تماما بإرادة الله بمنتهى الايمان واليقين والتسليم.

الكاتب: أيمن حسين
مدير عام الإعلام – جهاز تنظيم أنشطة سوق الغاز