بين “التغييز” و”التغويز”: بنات العنب وعنب البنات والبحث عن الحقيقة (تقرير)

بين “التغييز” و”التغويز”: بنات العنب وعنب البنات والبحث عن الحقيقة (تقرير)

عجيب أمرنا حين نتصدى لمناقشة قضايا تمس حياتنا اليومية وتهم مجتمعنا بأكمله، فبدلًا من التركيز على جوهر المشكلة، ننشغل بالفروع ونتقاتل على تفاصيل لا تسهم إلا في اندثار صلب القضية وعدم الوصول إلى حلول حقيقية.

مشكلاتنا لا حصر لها، وجاءت أزمة الغاز الأخيرة لتزيد الطين بلة، بعدما اضطررنا مجددًا إلى استيراد الغاز، ما ألزمنا باستئجار مصانع عائمة لإعادة الغاز المستورد إلى حالته الغازية، وبينما كان يجب أن ننشغل بمآلات هذه الأزمة وتكاليفها الباهظة، انطلقت التعليقات من كل حدب وصوب، وتحول الجميع فجأة إلى خبراء في صناعة الغاز.

بل وصل الأمر إلى انقسام الناس إلى فريقين: أحدهما يُقسم أن الاسم الصحيح هو “التغييز”، وآخر يؤكد أن “التغويز” هو الصواب! وبينما نحن نختلف على المصطلح، تاهت الحقيقة في زحام المصطلحات والمفاهيم، وغاب عن النقاش أصل المشكلة: أننا عدنا مستوردين للطاقة، وأن تكلفة الاستيراد فادحة، وأن هذه السفن تتكلف يوميًا مئات ألآلاف من الدولارات!

لم يناقش أحد هل هذا الوضع مؤقت أم دائم؟ وهل سيستعيد الإنتاج المحلي عافيته؟ وهل كان الانخفاض في الإنتاج محسوبًا فنيًا في هذا التوقيت؟ وماذا عن صيف أحماله ثقيلة؟ووهل تظل الأنشطة الصناعية والاستثمارية تعتمد على الدولة بهذا الشكل دون تحمل جزء من مسؤولية توفير احتياجاتها من الطاقة؟

هذه أسئلة استراتيجية كبرى، تستدعي إجابات دقيقة مدعومة ببيانات وإحصاءات عن الإنتاج، واتجاهاته المستقبلية، وخطط التعامل مع الأزمات بعد انتهاء فصل الصيف.

وبينما الناس منشغلون بتحديد النطق الصحيح لعملية الغاز، أطلت علينا فاجعة أخرى، هي حادثة “بنات العنب”، التي هزّت القلوب وأدمعت العيون، لكننا –كالعادة– ركزنا على ظاهر الحزن، وتركنا جوهر الكارثة.

المشكلة الحقيقية ليست فقط في الحادث المؤلم، بل في الجهل المستشري، بعد أن أصبح التعليم مجرد شهادة ورقية لا تُغني من جهل، صاحبها يظل على فطرته الأولى من عدم احترام القوانين، والجهل بأبسط قواعد السلامة، فتُحشر أرواح بريئة في سيارة واحدة، يقودها سائق متهور يدهس الجميع في لحظة رعونة.

وتتكرر المأساة، ويصبح همّ معظم الناس المطالبة بوظائف أو رحلات عمرة لأهالي الضحايا، ثم يُغلق الملف، وتُنسى الكارثة، كما ننسى كل أزماتنا حين تهدأ نارها!

هكذا تذهب كل مشاكلنا أدراج الرياح بعد أن تخبو جذوتها، دون أن نناقش أسبابها أو نواجهها علميًا وبوعي، نضيع في جدالات لغوية فارغة من المضمون، وننسى أن نظام التعليم الحالي قد أفرز جيلًا يعاني من جهل مدقع، هو السبب الأول فيما نراه يوميًا من كوارث، وهذا للأسف ما نفعله بأنفسنا.

المستقبل البترولي