في توديع محيسن وزملائه المسعفين: ملاحم إنسانية ستظل خالدة في ذاكرة الغزيين

في توديع محيسن وزملائه المسعفين: ملاحم إنسانية ستظل خالدة في ذاكرة الغزيين

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

حيث لا يكون الانتقال إلا بين ركام متهدم، أو خيام محترقة؛ وحيث تتواصل الساعات الطوال دون نوم حتى يتم إنقاذ المستغيثين تحت الأنقاض؛ وحيث لا يُحمل بين اليدين إلا شهيدٌ ارتقى، أو جريحٌ ينزف، أو صغيرٌ فقد أهله.. هنا يكون المُسعف حسين محيسن ورفاقه الأبطال في مهماتهم الإنسانية التي لم يعرفوا خلالها الكلل ولا القعود منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على غزة قبل أكثر من 20 شهرًا.

اليوم تبيت غزة، وقد ودّعها ثلاثة من المسعفين الأبطال، رفقة مصور صحفي، شهداء بعد أن استهدفتهم قذيفة دبابة إسرائيلية أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني في محاولة انتشال شهداء ومصابين من منزل تم استهدافه أيضًا شرق مدينة غزة، الأحد الماضي.

حسين محيسن، وبراء عفانة، ووائل العطار، ثلاثة من أبطال الإنسانية في قطاع غزة، وممن سُجّلت لهم مواقف لا تُنسى في إنقاذ المصابين وانتشال جثامين الشهداء، والعمل على تطبيب الجراح بكل ما استطاعوا من طاقة إنسانية، مواقف سجلتها لهم عدسة المصوّر الصحفي مؤمن أبو العوف، الذي ارتقى معهم في ذات الاستهداف الإسرائيلي، لتُطوى بذلك صفحات مضيئة من تاريخ البطولة الفلسطينية في قطاع غزة.

استهداف خلال العمل الإغاثي

وفي بيان، صدر أمس الثلاثاء، لمديرية الخدمات الطبية التابعة لوزارة الداخلية بغزة، نعت فيه الكوادر الثلاثة في إدارة الإسعاف والطوارئ بالمديرية بعد أن “ارتقوا بنيران الاحتلال الإسرائيلي أثناء القيام بواجبهم الإنساني”، موضحة أن الهجوم حدث لدى محاولة المسعفين انتشال عدد من المصابين من منزل تعرض للاستهداف من قبل الاحتلال في حي التفاح شمال شرق مدينة غزة”.

وأضاف البيان أن المسعفين الثلاثة تعرضوا لقصف مباشر بقذيفة دبابة إسرائيلية ما أدى لمقتلهم على الفور، مشيرًا إلى أن طاقم إسعاف آخر حاول الوصول إليهم وانتشال جثامينهم، تعرض لإطلاق نار من قبل آليات ومسيرات تابعة للجيش الإسرائيلي.

وتابع البيان: “وبعد جهود حثيثة تمكنت طواقمنا صباح اليوم (الثلاثاء) من انتشال الشهداء من مكان الاستهداف، بعد عدة ساعات من وقوع الحادثة”.

وطالبت المديرية المجتمع الدولي وجميع المؤسسات المعنية بفتح “تحقيق دولي عاجل في هذه الجريمة الإسرائيلية”، وناشدت بـ”توفير الحماية للطواقم الطبية، والعمل على منع استهداف الاحتلال المتكرر لهم خلال القيام بواجبهم”، وفق البيان.

وأكدت مواصلة القيام بواجبها وأداء رسالتها الإنسانية رغم المخاطر الكبيرة والاستهداف المتكرر لطواقمها من قبل الجيش الإسرائيلي.

جريمة حرب

ومن جانبها قالت حركة حماس، أمس الثلاثاء، إن استهداف الجيش الإسرائيلي لطاقم الإسعاف في حي التفاح بمدينة غزة وهم على رأس عملهم “جريمة حرب مركبة، تضاف إلى السجل الأسود للاحتلال الصهيوني”.

وأضافت الحركة في بيان أن استهداف من يسعف الضحايا يمثل “مستوى غير مسبوق من الوحشية والإجرام، ويكشف سعي الاحتلال لخنق كل أدوات النجاة والإنقاذ في غزة”.

ودعت الحركة المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى “تحمّل مسؤوليتهم في وقف جرائم الاحتلال، ومحاسبة قادته الفاشيين، وإنقاذ مصداقية المنظومة الدولية التي تتعرض لامتحان تاريخي أمام جرائم الإبادة واستهداف الاحتلال للطواقم الإنسانية في غزة أمام مرأى ومسمع العالم”، وفق البيان.

شهيد ينعي نفسه

وفي كلمة مسجلة له، قال المسعف الشهيد حسين محيسن: “أيام الحرب أصعب أيام.. كيف ما بتحكي عليها، أيام بعتبرها سودا على الشعب وعلى الناس وعلى سائقي الإسعاف بالذات، لأن سائق الإسعاف في نفس الوقت لما يطلع لاستهداف ولا بدّه يشوف مصابين.. مين به ينقل؟ بده ينقل أطفال ولا بده ينقل أزلام (رجال) كبار، ولا بده ينقل عجائز؟ ايش بدك تعمل؟”.

ويحكي الشهيد محيسن: “جاءة فترة في رمضان عليّ، (أفطر) على كوباية المياه والتمر”، مؤكدًا أنه يتوقع استشهاده في أي وقت، فيقول: “والله أنا متوقعها بأي دقيقة، أنضرب في سيارتي أو أنضرب بين الناس اللي بيستهدفوهم مرة ومرتين وثلاثة.. أنا بطلع الاستهداف يا إما بستشهد، يا إما برجع أقدم خدمة مرة تانية”.

رثاء الغزيين للمسعفين

ونعى مغردون الشهداء الأربعة، متناولين مواقفهم الإنسانية خلال العدوان الإسرائيلي طيلة شهور الحرب، وما قاموا به من تطبيب الجراح وإنقاذ المنكوبين ومواساة المضارين والتخفيف عن الصغار الذين أصيبوا أو فقدوا ذويهم، معتبرين أن فقدهم يمثّل فاجعة إنسانية كبيرة لأهل غزة.

وكتب الناشط صالح الجعفراوي في تغريدة له على منصة “إكس”: “ياا الله قديش هالليلة موجعة.. نشهد أنكم أديتم الأمانة، وبلغتم الرسالة، وحان الوقت لترتاحوا من هذا التعب.. الله يرحمكم ويتقبلكم يا رب.. الشهيد حسين محيسن، الشهيد وائل العطار”.

أما الصحفي أنس الشريف فقال في تغريدة له: “عاشوا بين أبناء شعبهم، ورافقوهم في كل موقف حتى الوداع الأخير، لم يتركوا الميدان، ولم يبحثوا عن راحة أو أمان، بل اختاروا ان يكونوا جسرًا للحياة في وسط الموت”.

مواقف لا تُنسى

ولم ينس أبناء غزة كم كانت أيدي هؤلاء المسعفين حانية على أبنائهم؛ حيث سُجلت العديد من المواقف الإنسانية لهم، وهم يحاولون رسم البسمة على وجوه الأطفال الذين تعرضوا وذووهم للقصف الإسرائيلي، كما لم ينسوا الحديث الرقيق للمسعف حسين محيسن، مع الطفلة ورد وهو يحاول أن يصل لأهلها، وكذلك الطفلة حنين وهو يمازحها بعد إصابتها، لتظل تلك المواقف خالدة في ذاكرة البطولة الفلسطينية.

انتهاك القانون الإنساني

وأعربت منظمات حقوقية وإنسانية عن قلق بالغ من استمرار استهداف الصحفيين والطواقم الطبية، محذرة من أن ذلك «يجهز على ما تبقى من العمل الإنساني ويضاعف الأزمة الكارثية التي يعيشها القطاع».

وقال صحفيون فلسطينيون إن «الاحتلال يستهدف كل من يوثق جرائمه أو ينقذ ضحاياه»، مؤكدين أن الصمت الدولي إزاء هذه الجرائم يشجع تل أبيب على التمادي.

وتواصل إسرائيل تبرير جرائمها بزعم استهداف «مواقع عسكرية»، بينما توثق الوقائع اليومية سقوط المدنيين وتدمير البيوت والمستشفيات ومراكز الإغاثة، وسط اتهامات دولية متزايدة باستخدام القوة بشكل غير متناسب وانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني.

ولا تزال أصوات الفلسطينيين والمسعفين والصحفيين تُخرس بالقنابل، بينما يبقى الرد الدولي عند حدود الإدانات الخجولة، في وقت تستمر فيه آلة الحرب الإسرائيلية في حصد المزيد من الأرواح البريئة في غزة.

وترتكب إسرائيل بدعم أمريكي، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، جرائم إبادة جماعية في غزة، خلّفت أكثر من 181 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، بجانب مئات آلاف النازحين.

وتحاصر إسرائيل غزة منذ 18 عاما، وبات نحو 1.5 مليون فلسطيني من أصل حوالي 2.4 مليون بالقطاع، بلا مأوى بعد أن دمرت حرب الإبادة مساكنهم، ويعاني القطاع المجاعة جراء إغلاق تل أبيب المعابر بوجه المساعدات الإنسانية.