فوضى وضغوط مالية في غزة تؤدي إلى انهيار اقتصادي متواصل للقطاع

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
لم تعد الحرب في غزة تقتصر على صواريخ وقنابل تسقط من السماء، بل امتدت إلى تفاصيل الحياة اليومية للناس، إلى رغيف الخبز، وإلى ما تبقى في الجيوب من أوراق نقدية بالكاد تُقرأ فئاتها من كثرة ما بُليت. فلأكثر من 600 يوم منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلي المستمرة على غزة، دخل النظام المالي في القطاع حالة موت سريري، تاركًا أكثر من مليوني إنسان في مواجهة العجز التام عن الوصول لأموالهم أو حتى الاحتفاظ بها.
سياق الأزمة
وتعود جذور أزمة السيولة النقدية الراهنة في قطاع غزة إلى نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2023، إذ بدأت ملامحها الأولى بالظهور عقب الانكماش التدريجي في عمل القطاع المصرفي، بدءاً من شمال القطاع، ثم سرعان ما امتدت التداعيات إلى مناطق الجنوب. وازداد الوضع سوءاً مع تعرض عدد من البنوك للاستهداف المباشر والتدمير، ما أدى إلى توقفها الكامل عن العمل.
فمنذ 7 أكتوبر 2023، تحوّلت البنوك في غزة إلى أهداف عسكرية. أُغلقت الأبواب، وتوقفت المعاملات، وشُلّت شركات التحويل، لتخضع عملية تسييل الأموال أو ما يصطلح عليه محلياً بـ”التكييش” لقانون السوق الذي تحول تباعاً مع طول أمد الحرب وغياب الرقابة المالية إلى عمليات ابتزاز شبه منظمة، يديرها أصحاب تجار الأموال.
ففي غزة اليوم، العملة الورقية تُعد ولا تُصرف. والفئات النقدية 5 و10 و20 شيكل، خاصة فئة العشرين شيكلاً، لم تعد مقبولة للتداول بسبب تلفها، مما يعيق عمليات البيع والشراء. وحتى الدولار الذي يظهر أحيانًا نادرًا، يفقد قيمته الحقيقية أمام وحش التضخم وانهيار العرض والطلب. فكيلو الطحين أو السكر – إن وُجد – قد يتطلب 60 دولارًا.
يقول أبو يوسف، أحد سكان القطاع: “المال صار عبئًا، نحمله ولا نقدر على صرفه، أحتاج 100 دولار لإطعام عائلتي وجبة فلافل، ومع ذلك لا أملك شيئًا، أصبح المال في غزة ورقًا بلا قيمة”.
كيف يتم التكييش؟
ويشير إلى أنه مع توقف البنوك انتشرت ظاهرة “التكييش” عبر تطبيقات البنوك والمحافظ الإلكترونية، حيث يحول المواطن رصيدًا إلكترونيًا ويستلمه نقدًا من مكاتب الصرافة أو متاجر مقابل عمولات بدأت في الأشهر الأولى للحرب بـ 2.5% لترتفع تواليًا إلى 45% من قيمة المبلغ، في عملية تستنزف جيوب المواطنين وتفقرهم، “إنه نهب في وضح النهار، في غياب تام لأي رقابة”.
ويلفت إلى أن التحويلات من الخارج، رغم أهميتها، تواجه عراقيل لا تُحصى: عمولات مرتفعة تصل إلى 40%، وأسعار صرف أقل من القيمة السوقية للأوراق النقدية الأجنبية، وصعوبات تقنية، فخدمات “ويسترن يونيون” و”موني جرام” تعملان بشكل محدود إن لم تكن متوقفة، بعد استهداف رفح وخان يونس وإغلاق المكاتب.
ويضيف أبو يوسف أنه مع تفكك النظام الرسمي لعلميات التسييل والصرف المالي، ظهرت شبكات تحويل غير رسمية عبر تطبيقات مراسلة، وهي عملية تتم بالتنسيق بين مرسل ومستلم مقابل نسب تعرف بالمرجع، بمعنى أنه إذا أراد شخص تحويل عملية رقمية بقيمة 1000 (USDT) إلى المحفظة المالية البنكية أو الرقيمة فعليه أن يدفع للشركة أو تجار الأموال 15% من قيمة المبلغ.
ويشير إلى أن الأمر الأكثر خطورة يتمثل في قيام “تجار الحرب” بسحب كميات كبيرة من النقد المتوفر في الأسواق من أجل دفع تنسيقات تجارية تسمح لهم بشراء بضائع وتمريرها إلى غزة، “في عملية معقدة وغير واضحة أو معلوم آلية عملها، غير أننا نتفاجأ بظهور أنماط من البضائع في الأسواق، لا أحد يعلم كيف أو يملكها، يتم تداول أسماء على شبكات التواصل وسط صمت دائم في أغلب الأحيان، ونفي يشوبه الشكل كثيرًا”.
ويعتقد أبو يوسف أن الفراغ المالي أدى إلى استغلال التجار وافتعال تحكم داخلي في سوق الصرف، فصارت للسلع أسعار مزدوجة: سعر عادي، وسعر في السوق السوداء، وكلاهما بعيد عن متناول الغالبية العظمى من المواطنين.
تفكيك النظام المالي
ووفق مصدر مطّلع من سلطة النقد الفلسطينية، فإنّ إسرائيل تنفذ خطة محكمة لضرب النظام النقدي في غزة، عبر أدوات مالية غير تقليدية تهدف إلى تقويض دور سلطة النقد وعرقلة عمل البنوك التي لا تقوى على السحب والإيداع منذ الأسابيع الأولى للحرب على غزة.
وأكّد المصدر لـ”العربي الجديد” أن أهداف الخطة الإسرائيلية تعطيل عمل البنوك عبر تقييد وصول النقد، ومنع ضخ عملة جديدة إلى أسواق غزة خصوصاً من الفئات الكبيرة، مشيراً إلى أنّ هناك افتعالاً داخلياً من التجار للتحكم في سوق الصرف، مع غياب الدور الفعلي للبنوك في توفير النقد واستمرار عمليات السحب والإيداع.
وبحسب المصدر، فإن السيولة النقدية المتوفر بالسوق حاليًا بالكاد تكفي لأبسط التعاملات، لكن الاحتكار والتلاعب من فئات معينة من التجار خلق سوقًا موازية يعقد الأزمة، فيها المال نادر، والسلع نادرة أكثر، والعدل غائب.
إبادة اقتصادية
ويقول الصحفي المختص بالشأن الاقتصاد أحمد أبو قمر، إن أسباب الأزمة إلى منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال السيولة النقدية إلى غزة منذ نحو عامين، بجانب اهتراء العملات الورقية، خاصّة فئة 20 شيكلاً، ورفض السوق المحلية التعامل بها إلى جانب فئة 10 شكيل المعدنية، بالتزامن مع إغلاق البنوك في غزة بسبب الأوضاع الأمنية، وهو ما أفقد سلطة النقد دورها الرقابي والإشرافي.
ويقول أبو قمر إنّ عمولة الحصول على السيولة أو ما يطلق عليها “التكييش” وصلت حالياً إلى نحو 40%، مرجحاً أن تصل إلى 50% خلال شهرين أو ثلاثة على الأكثر إذا استمرت الأزمة دون انفراجة حقيقية تتمثل بإدخال السيولة وعودة عمل البنوك وفتح المعابر أمام الحركة التجارية.
ويوضح أن الوضع أصبح حالياً أقرب لاقتسام المال بين صاحب المال من جهة ومن يملك السيولة من جهة أخرى، في سيطرة مطلقة للسوق السوداء واستغلال واضح، مع بدء تلاشي العدالة الاقتصادية التي سيكون لها تداعيات كبيرة تتمثل في خلل خطير بتوزيع الموارد والدخل، ما يفضي إلى تعميق الفجوة بين الفئات الاجتماعية، ويمنح الأفضلية لفئة ضيقة تحتكر السيولة وتفرض شروطها على السوق.
ويرى أن ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد أزمة مالية، بل هو شكل من أشكال الإبادة الاقتصادية، هدفه خنق الحياة بكل أشكالها. وحتى لو توقفت الحرب اليوم، فإن تعافي النظام المصرفي قد يستغرق سنوات.