غزة بلا نوم: أسراب البعوض تجعل الليل ساحة للتعذيب الجديد

غزة بلا نوم: أسراب البعوض تجعل الليل ساحة للتعذيب الجديد

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

وسط حرب مدمّرة تخطت شهرها العشرين، وتحت وطأة الحصار، الجوع، وتدمير البنية التحتية، تبرز أزمة صحية بيئية جديدة تزيد من معاناة سكان قطاع غزة، عنوانها: انتشار غير مسبوق للبعوض والحشرات، خاصة مع دخول فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة.

لطالما كانت بلديات القطاع تُنفّذ سنويًا حملات استباقية مع اقتراب الصيف لمكافحة البعوض، من خلال رش المستنقعات ومجاري المياه الراكدة بمبيدات خاصة تمنع فقس البيوض وتكاثر الحشرة. هذه الجهود أسفرت في السنوات الماضية عن تراجع كبير في معدلات انتشار البعوض.

لكن العدوان الإسرائيلي المستمر منذ أكتوبر 2023، الذي دمّر البنية التحتية للصرف الصحي وأوقف خدمات البلديات بفعل انقطاع الوقود والمعدات، قلب المعادلة. وأصبحت مياه الصرف الصحي تفيض في الشوارع والمنازل، وتشكل بيئة خصبة لتكاثر الحشرات، في ظل عجز البلديات عن القيام بأي دور فعّال.

معاناة ليلية لا تطاق

في مخيمات الإيواء والمناطق المدمّرة، يقول المواطن “أبو موسى”، أحد سكان المخيم الجديد في النصيرات وسط قطاع غزة: “كأن القصف وأصوات الطائرات لا تكفي، حتى يأتي البعوض ليجعل من الليل عذابًا جديدًا. لا أحد ينام. الكبار والصغار يستيقظون طوال الليل بسبب اللسعات القاسية”.

ويضيف الرجل الذي فقد منزله في الحرب ويعيش الآن في خيمة، أن الأزمة تعيد إلى الأذهان سنوات ما قبل 2006، حين كانت مكافحة البعوض تحديًا يوميًا للسكان في المناطق القريبة من وادي غزة الذي تحول إلى مكرهة صحية بفعل الصرف الصحي الذي يكب فيه.

وتابع أبو موسى: “كنا نعاني كثيراً، حتى أن السكان كانوا يخرجون بمظاهرات ومسيرات ووقفات احتجاجية أمام بلدية النصيرات للمطالبة بإيجاد حلول لهذه المشكلة الكبيرة، ولم نبدأ فعليا نشعر بحلول ناجعة لهذه المشكلة إلا في الأعوان التي تلت عام 2005، بتنا لا نشعر بهذه المشكلة تقريبا”.

ويلفت إلى أن الحياة في خيمة مأساة بحد ذاته، ومع أسراب البعوض التي تنتشر مع اقتراب ساعات المغرب “يمسي الليل عذابا لا يطاق، فلسعات البعوض القاسية لا تستثني أحداً، وتؤرق نوم الجميع، “وكأن القصف وأصوات الانفجارات والجوع الذي نحياه لا يكفينا، حتى تأتي البعوض وتؤرق الوقت الذي نغيب فيه عن واقعنا لتجعله وقتا للتعذيب وعدم القدرة على الراحة”.

ويشير إلى أن الجميع يتقلب خلال ساعات الليل دون القدرة على النوم، حيث يترك البعوض آثار لسعاته على أجساد الكبار والصغار، “الكل يحك في مناطق مختلفة، يضطرون لوضع أغطية على أجسادهم من أعلى رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم، يخذلهم الحر فيتكشفون فتكون البعوض لهم بالمرصاد وهكذا دواليك حتى ينقضي الليل وتشرق شمس الصباح”.

بيئة مثالية لتكاثر البعوض

وسبق لمنظمة الصحة العالمية ووكالات أممية أخرى أن حذرت من تفشّي الأمراض المعدية في غزة بفعل تدهور خدمات المياه والنظافة، وأشارت إلى أن انتشار الحشرات أحد أبرز مؤشرات تدهور الصحة العامة في حالات الطوارئ.

وخلقت الحرب في غزة ظروفاً مثالية لانتشار البعوض بصورة كثيفة، إذ دمرت العمليات العسكرية شبكات الصرف الصحي وطفحت المياه العادمة في الشوارع، مما ساعد على انتشار البعوض، وتكدست أطنان النفايات في الأحياء وخلقت بيئة مناسبة لتكاثر الحشرة.

ومن العوامل الأخرى التي أدت إلى انتشار البعوض أيضاً توقف بلدية غزة عن رش أماكن تكاثر الحشرة، حيث يعجز الفنيون عن تشغيل معدات رش المبيدات أو شفط المياه، وسط نقص في الوقود والمبيدات.

وتفيد شهادات متطابقة في مراكز الإيواء التي أصبحت مأوى لمئات الآلاف من النازحين، بأن الحشرات باتت تشكل أحد أكثر مصادر المعاناة اليومية، فشبكات الحماية من البعوض غير متوفرة، ووسائل الوقاية مثل المبيدات والناموسيات نادرة أو غير موجودة.

مخاطر صحية

ولا تقتصر المشكلة على الإزعاج وقلة النوم. فلدغات البعوض، وفق تحذيرات طبية، تتسبب بالتهابات جلدية وحساسية حادة، خاصة لدى الأطفال، وقد تكون ناقلًا لأمراض وبائية خطيرة مثل الملاريا، وحمى الضنك، وداء الفلاريا، لا سيما في بيئات مزدحمة وسيئة التهوية مثل المخيمات.

ويقول المختص في علم الأوبئة بجامعات غزة، أحمد عمرو: “قبل الحرب كان البعوض في غزة غير سام ولا ينقل الأمراض ولا العدوى، لكن الآن تغير كل شيء، رصدنا أمراضاً معدية تنتقل إلى الإنسان من خلال لدغة المفصليات مثل البعوض والذباب، التي تعمل كنواقل”.

ويضيف “تشكل الأمراض المنقولة بواسطة البعوض نسبة تزيد على 17 في المئة من الأمراض المعدية في غزة، إن ما نشهده في مراكز الإيواء ومخيمات النزوح من تراكم للمياه الراكدة، والإدارة غير الكافية للنفايات والصرف الصحي، يهيئ بيئة خصبة لنواقل الأمراض”.

بحسب عمرو، فإن الملاريا وحمى الضنك وداء “الليشمانيا” الجلدي ظهرت في غزة أثناء الحرب بسبب البعوض، وهذه الأمراض آخذة في الارتفاع. مشيراً إلى تسجيل 83 ألف حالة جرب، و48 ألف طفح جلدي، و7300 حالة جدري الماء.

دعوات عاجلة

ووسط تفاقم الأزمة، أطلقت بلديات القطاع وناشطون نداءات استغاثة للمنظمات الدولية والإنسانية من أجل توفير المبيدات الحشرية الآمنة بيئيًا، واستعادة الحد الأدنى من خدمات النظافة والصرف الصحي.

ويؤكد الناطق باسم بلدية غزة، حسني مهنا أن المدينة تعاني من أزمة حقيقية جراء نقص الإمكانيات وفقدان المعدات وعدم سماح الاحتلال بإدخال المعدات الثقيلة، ما تسبب بتكدس أكثر من 170 ألف طن من النفايات بشكل عشوائي وفي محطات مؤقتة دون القدرة على ترحيلها، إلى جانب عدم القدرة على تصريف المياه العادمة.

ويلفت إلى أن مكافحة البعوض كانت تتم قبل الحرب بثلاث طرق: المعالجة الميكانيكية، والبيولوجية، والكيمائية، وهي طرق تستهدف مكافحة الحشرة في كافة مراحل دورة حياتها، مبينًا أن المعالجة الميكانيكية تتمثل في التخلص من المياه الراكدة في برك تجميع مياه الأمطار، ومن ثم التخلص منها في مرحلة البيضة، وهذا مستحيل لأن إسرائيل قصفت مرافق الصرف الصحي.

ويشير مهنا إلى أن المعالجة البيولوجية تتم من خلال استخدام المبيدات الحيوية، والتي ترفض سلطات الاحتلال إمداد غزة بها، إلى جانب المبيدات الكيماوية التي تستخدم لمعالجة الحشرة الكاملة المتطايرة، وتجري مكافحتها بجهاز الضباب وكذلك المضخات اليدوية، على أن يتم رش المبيد في الأماكن المفتوحة خلال الفترة المسائية، وهذا أمر غير ممكن بسبب انتشار مخيمات النزوح في المناطق المفتوحة.