مراسلنا يصف لحظة من غزة: معاناة العطش في ظل النيران

مراسلنا يصف لحظة من غزة: معاناة العطش في ظل النيران

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

بهذه الكلمات المؤلمة يروي مراسلنا في غزة “رحلة العطش تحت النار” حيث يعاني جميع أهل القطاع المنكوب بحرب الإبادة من شحّ المياه الصالحة للشرب، في وقت يفتك فيه الجوع والأمراض والعطش بالناس فيرتقي العشرات يوميًا ضحايا لحرب التجويع والحصار تحت مرأى ومسمع العالم الذي تركهم فريسة للإجرام الصهيوني دون أن يحرك ساكنا لوقف الإبادة.

لم يخطر ببالي يومًا أنني سأقف في طابورٍ طويل، فقط لأحصل على غالون ماء، وأنا خاوي القوى، لم أتذوق طعامًا منذ يومين.

لكنني، ككثيرين في غزة، صرت أبدأ يومي في رحلة البحث عنه. لا أبحث عن شيءٍ سواه، كأن حياتنا توقفت عند قطرةٍ لا تأتي، كأن الأمل معلق بها.

لم نعد نركض من القصف فقط، بل من العطش أيضًا، إذ لا ماء يصل إلى المنازل منذ بدء المحرقة.

نركض خلف خزانٍ مشكوك في نظافته، خلف أنبوبٍ يخرج من بئرٍ خاص، خلف صهريجٍ لا نعلم من أين جاء، ولا كم سيمكث. قد تُسقطه قذيفة في أي لحظة، فوق رؤوس المنتظرين.

أمس، خرجت مبكرًا ومعي ابني الصغير، نحمل أوعية فارغة، وكل ما نأمله أن نعود بقطراتٍ تروي بها عطشنا.

مررنا في الطريق على منازل مهدّمة، ووجدنا أناسًا مثلنا، يتصبب العرق منهم، يبحثون عن قطرة ماء. رأينا الأستاذ، والطبيب، والمحامي، والمرأة، والطفل، والشيخ… جميعهم يبحثون عن قطرة الحياة.

حين وصلنا إلى نقطة تعبئة المياه، كان الطابور أطول مما توقعت، طابورًا ثقيلًا بالهموم والآلام.

التعطيش.. سلاح صهيوني بغيض ضد الغزيين في أتون الإبادة


جلسنا على الرصيف، ننتظر بصمت.

طفلٌ بجانبي سأل أمه: “متى سنملأ القارورة ونعود إلى الخيمة؟”، فربّتت على رأسه وهمست: “حين ينتهي الانتظار”.

لكنها لم تقل له الحقيقة. أعلم ذلك.

في غزة، الانتظار لا ينتهي.

تقدّمت ببطء، ومع كل خطوة، كان الخوف يتقدّم قبلي:

ماذا لو انتهى الماء قبل أن أصل؟

ماذا لو تكررت فوضى الأسبوع الماضي، حين نشبت خلافات بين المنتظرين وبدأ الهرج والمرج؟

يتبادر إلى ذهني سؤال: ماذا لو أقدمت طائرات الاحتلال على استهداف العطشى، كما فعلت مرارًا وتكرارًا؟

ضمن حرب التعطيش .. أوامر إخلاء إسرائيلية تشمل أكبر محطة لتحلية مياه البحر في القطاع


استدرت بنظري إلى زاويةٍ من المكان، فرأيت رجلًا مسنًا يتكئ على عكازه، وتجاعيد الوطن مرسومة على وجهه. كان يمسك جالون ماء فارغًا، ينتظر، والهموم تنساب من عينيه.

وفي زاويةٍ أخرى، امرأة تحكي لنسوةٍ عن ابنها الذي استُشهد في الحرب، وترك لها عددًا من الأطفال الأيتام.

شابٌ آخر يقف تحت أشعة الشمس الحارقة يقول: “مكاني الطبيعي قاعات المحاضرات في الجامعة، وليس طوابير المياه”.

وطفلٌ لم يتجاوز العاشرة، يحمل جالون ماء، يقول إن والده ارتقى شهيدًا، وإنه الذكر الوحيد بين أخواته الإناث.

ينطق بكلماتٍ تسبق عمره بسنوات، وكأن الهموم قصمت ظهره.

التعطيش .. سلاح إسرائيلي في حرب الإبادة الجماعية (انفوفيديو)


اقتربت من الخزان، لم يتبقَ فيه سوى القليل.

مددت وعائي، راقبته وهو يُملأ ببطء.

الماء ليس كما ينبغي، لكنه، بالنسبة لنا، أثمن من الذهب.

عدت إلى البيت بوعاء نصفه ماء، ونصفه قلقٌ وترقّب.

وفي الطريق، رأيت أطفالًا يركضون خلف شاحنة مياهٍ أخرى، آملين أن يحظوا بتعبئة قواريرهم.

بلدية غزة: أزمة التعطيش تزاد حدة مع استمرار تعطل خط مياه “ميكروت”


سمعت صوتًا خلفي يقول:

“الاحتلال يستخدم التعطيش سلاحًا في هذه الحرب.”

ولم أحتج إلى تفسير.

أنا رأيت ذلك.

وشربته.

وذقته في قلوبنا.